سعيد المالكي
عَهِدنا منذ الصغر أن اليوم الوطني ليس مناسبة بروتوكولية؛ بل طقس شعوري يفيض من الناس قبل أن ينعكس على الشوارع، وكانت البهجة تتسرّب إلى كل زاوية، فتغدو المدن والقرى أشبه بعرسٍ طويل يمتد أيامًا؛ حيث تتزين المركبات بالملصقات والعبارات، وتُضاء البيوت بأنوارٍ لا تنطفئ، وتتسابق المؤسسات- الخاصة قبل الحكومية- في إظهار أجمل ما لديها.
كان ذلك الفرح الحقيقي أقوى من التكلفة، وأعمق من المظاهر، وأصدق من أي حملة إعلامية. وكان الشباب يكسون مركباتهم بملصقات وزخارف لا تُشبه إلّا مشاعرهم الفيّاضة، رغم ما تتحمله جيوبهم من تكاليف. تبقى تلك الملصقات أسابيع؛ بل شهورًا حتى يدفعون ثمنًا آخر لإزالتها. الطريف في الأمر أن بعضهم كان يرفض إزالتها حبًا واعتزازًا، حتى اضطرت السلطات إلى تحديد فترة رسمية لبقائها، يا له من فرح! يا لها من طاقة كان الناس يظهرونها في التعبير عن انتمائهم!
كنا نرى بيوتًا متواضعة في قرى بعيدة، تلمع بأنوار لا يشاهدها سوى أهلها، لكنها كانت إعلانًا صامتًا عن حب الوطن.
كنا نرى الناس يتسابقون لشراء الأعلام وأضواء الزينة دون تردد خوفا من نفاذها مهما كانت الأعباء المادية، وكأن الفرح لا يكتمل بدونها.
لكن تراجعت طقوس البهجة التي شكّلت ذاكرة أجيال كاملة، تراجع الفرح، وخَفَتَ وَهَجُهُ. وبدأت مظاهره تتوارى تدريجيًا، ليحل محلها فرح خاطف ناقص.
فلماذا تراجع الفرح في نفوس الناس أنفسهم طوعًا لا كرهًا؟
أهو تغيُّر في الظروف الاقتصادية وضيق المعيشة الذي جعل الفرح رفاهية مؤجلة؟ أم هو الإرهاق الاجتماعي الذي تراكم عامًا بعد عام حتى باتت النفوس أقل استعدادًا للاحتفال؟ أم أنه فتورٌ في العلاقة الوجدانية بين المواطن وواقع حياته اليومية، حين يشعر أن همومه أكبر من أن يُخفيها مُلصقٌ أو شريط زينة أو مصباح ملوّن؟
أم لعل المسألة أعمق من ذلك؟ فربما بات الناس يبحثون أولًا عما يمنحهم الأمان عيشهم الراهن والمستقبلي، واستقرار لقوتهم اليومي قبل أن يبحثوا عن أيقونة للفرح. فحين يشعر الإنسان بأن أساسيات حياته ليست مستقرة، يصبح الاحتفال بالنسبة إليه سؤالًا مؤجلًا، وتصبح البهجة حالة تحتاج إلى أرضٍ صلبة كي تنمو عليها.
نعتقد أن تراجع الفرح ليس مجرد اختفاء لزينة أو تراجعًا في شغف المناسبات؛ بل مؤشر اجتماعي عميق يكشف شيئًا ما في الداخل يحتاج إلى قراءة وتأمل. والفرح ليس مجرد مظاهر وملصقات تُعلّق؛ بل شعورٌ يُبنى ويُغذّى، وإذا خفت حضوره في الوجدان، فذلك يعني أن هناك فجوة ما بين الناس وحياتهم اليومية ينبغي تقليصها وفهمها، وأن هناك شيئًا ما يحتاج إلى إصلاح: شعور الناس بالأمان المعيشي، بعدالة الفرص، وربما بوضوح المستقبل.
ذلك لا يعني التشكيك في حبّ العُمانيين لوطنهم، فهو حبّ ثابت وراسخ، لا تحدّه زينة ولا مظاهر. ولكن الحبّ، كالزهرة تحتاج إلى رعاية وغذاء. وهو قطعًا لا يعني التقليل أو التشكيك فيما تبذله الحكومة من جهود لرفاهية المواطن؛ بل إنها دعوة لبذل المزيد، واعتماد قدر أكبر من الشفافية في ذلك، حتى يطمئن القلب.
وختامًا.. قد تقل الزينة، وقد تخفُت الأضواء، ولكن المواطن يبقى هو المقياس الحقيقي لفرح الوطن. وإذا كان الفرح اليوم ناقصًا، فذلك لا يعني غيابه؛ بل يعني أن البوصلة تشير إلى حاجةٍ ملحّة لإعادة بثّ الطمأنينة في النفوس، واستعادة تلك الشعلة القديمة التي كانت تجعل البلاد بأكملها تتوهج كل نوفمبر من كل عام.
الفرح لا يُفرض ولا يُصنع؛ بل يُزرع في القلوب. وإذا اطمأنت القلوب، عاد الفرح من تلقاء نفسه.
