د. إبراهيم بن سالم السيابي
اليوم الوطني هو يوم نستعيد فيه تاريخنا العريق، ونحتفي فيه بكل إنجاز، ونستحضر القيم التي صنعت هويتنا. يومٌ يعكس روح الوحدة والانتماء، ويذكّرنا بأنَّ الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية؛ بل قصة تكتبها الأجيال بحبٍ وعطاء.
في هذا اليوم، لا نحتفل فقط بالأعلام المرفوعة أو الفعاليات المتنوعة؛ بل نحتفل بالحلم الذي تحقق، وبالجهود التي بذلها الآباء والأجداد لبناء مُجتمعٍ يفتخر بأبنائه ويؤمن بمستقبله.
في يوم الوطن من نوفمبر المجيد، لا نحتفي بالتاريخ فحسب؛ بل نحتفي بالمعنى المتجذر في القلوب؛ ذلك الإحساس العميق الذي يجعل الانتماء لهذه الأرض الغالية ليس مجرد موقعٍ نعيش فيه؛ بل هويةٌ تتنفس داخلنا، وقصةٌ ممتدة عبر الزمن. إنه يومٌ تتجدد فيه المشاعر، ويعود فيه الوعي الوطني ليربط الماضي بالحاضر، ويُذكّرنا بأنَّ لكل واحدٍ منَّا جذورًا ضاربة في أرضٍ لم تنقطع يومًا عن مسيرة البناء.
ويوم الوطن ليس مُناسبةً عابرة؛ بل لحظة تتقدم فيها القيم والمعاني على الاحتفال؛ لحظة نرى فيها صورة عُمان كما أراد لها التاريخ أن تكون: دولةٌ راسخة الجذور، تحمل إرثًا حضاريًا وسياسيًا تشكّل عبر القرون، ليمنح حاضرها ثباتًا ومستقبلها أفقًا واسعًا. إنه اليوم الذي نُدرك فيه أنَّ هذا الوطن لم يكن صدفةً في تاريخ الجغرافيا؛ بل كان دائمًا قرارًا من إرادة الإنسان العُماني الذي بنى وعمّر ودافع وحافظ.
ونحن كمواطنين عُمانيين نشعر بفخرٍ عميق بهذا الإرث العظيم الممتد في جذور الزمن؛ إرثٌ لا يشيخ ولا يتراجع، ولا يتخلى عن قيمه. ويزداد هذا الفخر كلما ذُكر اسم عُمان بين الأمم؛ اسمٌ يدخل الساحات الدولية بثقة، ويُستقبل بالاحترام قبل أن يُقال، لأنَّه محمّل بسمعة طيبة صنعها نهج سياسي ثابت يقف مع الحق، ويُساند المظلوم، ويُمارس حيادًا حكيمًا لا يبتعد عن المبادئ؛ بل يبتعد عن الصراعات التي لا تُبنى بها الأوطان. نهجٌ يمنحنا شعورًا بالاعتزاز، لأنه يجمع بين الحكمة والقوة، وبين المبدأ والواقعية.
وهنا تتجلى ذاكرة الأجيال، تلك الذاكرة التي تحفظ الوطن في القلوب قبل الكتب، وتنقل معاني الانتماء من جيلٍ إلى جيل. فالأوطان لا تبقى بالخرائط وحدها؛ بل بما يُورّثه الآباء للأبناء من قيمٍ وثباتٍ وصورٍ مشرقةٍ لهذا الوطن. وما نحتفل به اليوم ليس لحظةً عابرة في التاريخ؛ بل استمرارٌ لروحٍ حملها العُمانيون عبر الزمن، وحافظوا عليها كما تُحفظ الأمانة في الصدور.
ويأتي يوم الوطن كتذكيرٍ بما تحقق من إنجازات، وما نأمله من مستقبل. فقد استطاعت بلادنا أن تقطع شوطًا مهمًا على طريق النهضة والتنمية، وتسعى اليوم إلى إعادة بناء منظومتها الاقتصادية وفق رؤيةٍ واضحة. ورغم ما يشهده العالم من تقلباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ تُؤثر في مسارات العمل، فإنَّ المرحلة القادمة تستدعي تسريع خطوات التنويع الاقتصادي وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي حتى تواكب الطموح الوطني المتزايد. ومع ذلك ندرك أن أمامنا تحدياتٍ تتعلق بتطلعات المواطن نفسه؛ فطموحات العُماني اليوم اتسعت، وأصبحت أكثر وعيًا وارتباطًا بتحقيق مستوى أعلى من الرفاهية والاستقرار وجودة الحياة.
وهنا تبرز أهمية تسخير الإمكانات المتاحة ووضع خارطة طريقٍ واضحةٍ توازن بين الموارد وبين رغبات المواطن المشروعة؛ فالتطلعات لا يمكن أن تتحقق دفعةً واحدة، ولا يمكن تجاهلها في الوقت ذاته. ولذلك أصبح من الضروري أن نضع في الحسبان أهمية المرحلة القادمة بقدرٍ أعلى من التخطيط العملي القائم على ترتيب الأولويات، وتعظيم الموارد، وتسريع الإجراءات، وابتكار مساراتٍ جديدةٍ تفتح المجال أمام فرص العمل والاستثمار وتحسين الخدمات. إن مواجهة التحديات لا تعني تجاهل الواقع؛ بل تعني فهمه وترشيد الإمكانات والعمل على تحويلها إلى نتائج ملموسةٍ يشعر بها المواطن في تفاصيل حياته اليومية.
وفي قلب هذه المسيرة، يأتي دور المواطن؛ إذ إنَّ المُستقبل الذي نتطلع إليه لا تصنعه الخطط الحكومية وحدها؛ بل يصنعه وعي أبناء الوطن. إن المواطنة ليست بطاقة تعريف؛ بل ممارسة يومية تبدأ من احترام القانون، وتمرّ بالالتزام بالعمل، وتتجلى في المحافظة على المصلحة العامة. فالمواطن الواعي هو الثروة التي لا ينضب عطاؤها، وهو الاستثمار الحقيقي الذي تقوم عليه نهضة الدول. فالدول التي تنهض ليست تلك التي تمتلك الموارد فقط؛ بل تلك التي يمتلك مواطنوها الوعي والإرادة والإيمان بأن كل سلوكٍ صغير هو لبنة في بناء وطنٍ كبير.
ومن هنا، نحن كمواطنين نضع أيدينا مع القيادة الحكيمة التي تضع نصب أعينها الوطن والمواطن معًا. نساند، ونعمل، ونشارك، وندرك أن نهضة الأوطان لا تُصنع من جهةٍ واحدة؛ بل من التقاء إرادة الدولة مع وعي المجتمع، وتعاون السلطة مع المواطن. فهذا التكامل هو الذي يحوّل الرؤية إلى واقع، والطموح إلى منجز.
وطريق النهضة لم يكن يومًا مفروشًا بالورود؛ بل كان طريقًا يحتاج إلى صبرٍ وإصرارٍ ومراجعةٍ وتطويرٍ مستمر. لكنه الطريق الذي يستحق أن نسير فيه، لأن نهايته عُمان أقوى، أعظم، وأكثر ازدهارًا.
وفي هذا اليوم المجيد، لا نحتفل بوطنٍ فحسب؛ بل نحتفل بأنفسنا ونحن نرى هذا الوطن يكبر بنا ونكبر به.
وفي الختام.. وبمناسبة اليوم الوطني المجيد، نرفع أسمى آيات التهاني لمقام حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- قائدًا وملهِمًا وربّانًا لمسيرة الوطن.
وكل عامٍ وعُمان في صعودٍ وازدهار، وكل عامٍ وقلوبنا معلّقة بها، فخورين بتاريخها، مؤمنين برؤيتها، ثابتين على حبها والولاء لها.
