هلال بن عامر بن علي القاسمي
جَلسَ مع والدي بعض الرجال وتناولوا نزاعًا على زعامة إحدى القبائل، وكان والدي يسمعهم وقليلًا ما يرد عليهم، ثم ذهبوا بدون أن يكون لوالدي موقف واضح، فسألته لماذا كان مُعرضًا عن نقاشهم؛ فردَّ عليّ بقوله: "ومن يكن قد طلب الرئاسة فليحتمل لمضض السياسة"، فعَلِقَت هذه المقولة في ذهني منذ ذلك اليوم.
كبرتُ وخضتُ عُباب الحياة، وغصت في أعماق كتب التاريخ، وفي يوم وأنا أقرأ في كتاب "الفتح المبين" لابن رزيق عن سيرة الإمام ناصر بن مرشد وما فعله وما قام به وما كابده، وأكملت حتى حدث الافتراق في القرن الثامن عشر الميلادي، وشبَّت الحروب الأهلية، وعصفت بعُمان حتى كادت أن تكون فريسةً للغُزاة، خرج رجل من أعماق المجتمع العُماني، فالتقف الرماح الطائرة، والسيوف الحادة الهاوية، والسهام المنطلقة، وقبض بقبضته الصلدة تلك الأيادي التي ما فتئت الحرب، واضطرمت في قلوبها نار الوغى، وكان الرؤساء يطاح بهم واحدًا تلو الآخر، الرقبة التي تخرج فوق الرؤوس تُقطع، والخوف والذعر والرعب فك فمه الرهيب ليلتهم كل من قال إني أطلب الرئاسة، عندها تذكرت مقولة والدي التي أخذها من كتاب جوهر النظام لنور الدين السالمي، فمن هذا الرجل وما ميزته؟
زحفت الجحافل المسلحة، يقتل الجار جاره، والصاحب صاحبه، حتى باتت عُمان ساحة تصفيات وقتل ورعب، وبين تلك الجيوش المتحطمة تنغرس جيوش أجنبية، فتسير في عُمان كالسيل الجارف، تساق النساء للقتل، ويقتل الأطفال هونًا، وتدمر البيوت والعمارة، وتخرب المدن والقرى التي بناها الأئمة السابقون، ويُقتل العلماء غدرًا وجهرًا، وتهتز عُمان كلها بين مقتول ومهجَّر ومسروق وسبيَّة.. وفي صحار المدينة الرائعة، المدينة التي طالما كانت رمزًا للمقاومة، المدينة الساحرة بجمالها ورجالها وعنفوانها، ينادي رجل من بين الأنقاض، اثبتوا لدحر الغزاة، كان شابًا حاسمًا نشطًا، تلمع من بين ثناياه النجابة والفطنة والسياسة، وفي عينيه نظرة صقر حادَّة مكرَّسة بالشجاعة والقوة، وما سمعت صحار ذلك الرجل حتى التفت حوله، وكوَّنت القوة الثابتة التي ستشع منها أنوار تضيء عُمان.
كان ذلك الشجاع هو أحمد بن سعيد بن أحمد البوسعيدي جد سلاطين البوسعيد الذين حكموا عُمان منذ منتصف القرن الثامن عشر إلى اليوم، انطلق نحو الغزاة وغسل صحار منهم بالثبات والسياسة، وهربوا بلا رجعة، وشمر السواعد، وأقام القواعد وسار مجاهدًا نحو توحيد عُمان، وفي عام 1154هـ -حسب ابن رزيق- كان انتقال الحكم إلى الإمام أحمد بن سعيد، وقبل أن نخوض في حكمه تداركتني ذاكرتي عن يوم بركا، حين كان السائل لا يمر في سوق بركا وإلا يسمع النداء أن جميع الناس يعملون في تجهيز مأدبة لرؤساء ووجهاء الغزاة، كانوا يستنكرون ذلك في أنفسهم ويقولون: "هؤلاء يجب أن يقادوا للقتل لا للولائم والعزائم"، والسائل يسأل من أمر لهم بهذا الإكرام، والجواب إنه الوالي أحمد بن سعيد! وما أن اكتملت الموائد حتى اجتمع وجهاء الغزاة ودخلوا حصن بركا، فدقت الطبول والمنادي ينادي: ألا من له وتر أو ثأر من هؤلاء الغزاة فليأخذه..
حوى الإمام أحمد بن سعيد سجايا عدَّة منها ذكرها ابن رزيق في كتابه وهي من العجب والإعجاب ما يثير في النفس الاعتزاز، وما كان يخرج الإمام أحمد من الرستاق إلا ويأمر صنَّاع الحلوى أن يحضروا حلوى في علاقات فيأخذها معه حتى يبلغ بركا، وعند بيت النعمان يجلس هناك فيتوافد عليه الفقراء والأطفال والضعفاء فيوزعها لهم كلها، ثم يجلس ليفد الناس إليه ويتلقاهم بالتسليم والبشاشة، يسمع شكواهم ويقضي حاجتهم، وينصفهم من ظالمهم، ثم يمضي إلى مسقط فما أن يصل مطرح يصطف الناس فقراؤهم ومساكينهم ويأمر العسكر برفق المسير لتسلّم عليه الرعية، ويرد عليهم السلام، وعندما يصل إلى مسقط تتوافد الوفود يقضي حوائجهم بصدر واسع ووجه مستبشر.
ويضيف ابن رزيق ولما خلصت بيعة الإمامة للإمام الحميد أحمد بن سعيد من أهل عُمان، وانقادوا له طوعًا بأزمة الإذعان، وما أحد عنه من أهل الإنصاف تخلى لما رأوه للإمامة أهل، أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأظهر العدل والإنصاف، ورتب قواعد السلطنة بأحسن ترتيب، وهذبها بأبلغ تهذيب، ومدحه الشاعر الضرير العبسي بعدة قصائد قال في إحداها:
يا أحمد الناس اسمًا // وأعدل الناس حكمًا
وأكبر الناس عقلًا // وأكثر الناس حلمـًا
وأوسع الناس جودًا // وأغزر الناس فهمًا
يا أحمد بن سعيد // ذو عنده المجد نما
خبر الأئمة طـرًّا // ذو صار للبخل خصمَا
وقد شمل ظل الإمام أحمد بن سعيد خارج القطر العُماني، وخارج مملكته التي تشمل سواحل من الخليج العربي ومناطق شتّى من شرقي أفريقية، وفي خارج تلك المملكة امتد ظله وكافأته الدولة العظمى حينها، أي الدولة العثمانية بما حفظ لها مكانتها وممتلكاتها، حينما هوجمت البصرة عام 1170هـ الموافق 1756م، ونُصبت سلسلة كبيرة في شط العرب، وأرسل أهل العراق استنجادهم بالإمام أحمد حتى تواترت عليه كتبهم، جهز الإمام عشرة مراكب كبار، ومن المراكب الصغيرة الكثير، وما يقارب عشرة آلاف رجل، وأمرهم بالزحف إلى فك الحصار والانتصار، فلما بلغوا البصرة ورأوا تلك السلسلة الضخمة، دفعوا إليها المركب "الرحماني" فقطَّعها جذاذًا، وهبط الشجعان على الغزاة هناك، كما يهوي العقاب على الفرائس، فتركوهم بين مستنجد وأسير وقتيل، وضعوا فوقهم السيف حتى لاذوا بالهروب، وطلبوا العفو والسلم، ونصروا إخوانهم أهل البصرة وعادوا إلى عُمان بالنصر.
سمع السلطان العُثماني بما فعله الإمام في نجدة أهل البصرة، فأمر واليه في البصرة أن يدفع للإمام أحمد بن سعيد الخراج أو المكافأة؛ كل أحد يحب أن يسميها باسم، لكنها عنوان للصداقة، والمحبة، والاعتزاز، والفخر بين الامبراطوريتين آنذاك.
سار الإمام سيرة الإحسان والتمام في أهل عُمان، وفيمن هم تحت حكمه من سواحل السند وأفريقية، وحفظ للدولة هيبتها، وأحسن الجوار حتى بلغ عند الناس الملاذ الأول الذي يُنتصر به، وهو الذي قضى على القرصنة التي مارسها بعض التجار في بحر العرب وقطع تجارة الأرز، ما حدا بملك النواب بدلهي التي كانت عاصمة للدولة المغولية المسلمة، بأن يرسل الهدايا تعبيرًا عن شكره للإمام في عُمان.
إن من تشرَّب في أيام السلم الحكمة والعلم، وركب بساط الجد والحزم، وتناول المجتمع عمقه وسطحه، وافترش التراب، ونام تحت الشجر، وسافر ماشيًا بين القرى والمدن، ونال من الشجاعة أن يدافع عن حقه، ويطارَد حتى يبلغ مبلغ الخائف، فيناله الإكرام، وتقرأه العيون، وتقره الألسن قبل أن يكون له مقام، وما أن يراه صاحب الجلالة والسلطان حتى يبعثه بين رجاله والٍ وأمير، لهو بحق سيعرف كيف يقبض الخطام، وكيف يبني الدولة من الحطام، وأنه من يحتمل مضض السياسة وإن طلب الرئاسة، إنه رجل تسربل ثوب السياسة، وتشبع من ماء الرئاسة، حتى أضحى به الحال بين أن يكون نائمًا في مغارة هاربًا أو بين أن يمسك الزمام، ويخاطر بروحه ويخوض غبار الحروب، فما ترك للخوف سيادة، وقام مقامَ الرئيس القائد، الذي بحق قام من الغبار ليحافظ على أمجاد بلاده، فأقام دولة ألبوسعيد التي امتدت إلى يومنا، خاضت عرصات الأحوال، وثبتت يوم الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، حين تهاوت الدول، وتساقطت الجيوش، حين انهارت أكبر الامبراطوريات، وتناولت مكر الماكرين من الغرب وغيرهم؛ بحكمةٍ وسياسةٍ منقطعة النظير، وما هي بغريبة عليهم، فأهل عُمان تشربوا الصبر والتجلد، وما جبال عُمان إلا عنوان لرجالها، وما العروبة التي تمخضها العواصف إلا جبل وبحر، وصحراء يتوه من يدخلها، العرب بالإسلام هم السماء وهم الأرض فإن انحسر يومهم سيأتيه المد دومًا.
وفي ليلة الخميس من شهر ذي القعدة عام 1188هـ، فاضت روح الإمام أحمد بن سعيد إلى بارئها، تاركة خلفها أرضا شاسعة، وصفحة في سجل نقرأه اليوم، مليئًا بعبق الحرية، وأمجاد أبيَّة، وإضاءات تضيء الوجود فخرًا وعزًا وسرورًا، إننا نعيش تلك الأيام من خلال القراءة، ولكننا عشنا عهد السلطان قابوس الذي كان عهده نقلة نوعية، ونهضة تنموية، ومسرَّةٍ بعد مضرَّة، وفرحة بعد عسرة، فخَلَفهُ ابن عمه الماجد سليل الإمام أحمد بن سعيد؛ السلطان هيثم بن طارق آل سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد، لتضاف صفحة أخرى من صفحات العراقة في دولة البوسعيد المجيدة.
