اتفاق وهمي على الورق

 

 

محمد بن علي البادي

في كلِّ صباحٍ تشرق فيه الشمس على غزّة المدمّرة، تُفتَحُ نوافذُ البيوت على أنقاضٍ تحترقُ، وتصدحُ أصواتُ الصراخ بين الركام. تتحرّكُ الأمهاتُ بين الحجارة، يجرّدن ما تبقّى من ألعاب أطفالهن، ويحملن ذكرياتٍ متفحمةً لم تعد لها مأوى. الأبواقُ والصفاراتُ تملأ السماء، والأطفالُ، الذين لم يعرفوا الراحة، يختبئون في زوايا منازلهم المهدمة، بينما الأب يحملُ طفله وقد بردت يده، ويبحث عن أمانٍ لا يعرفه هذا اليوم.

الدماء تسيلُ على التراب، والأرضُ تصرخُ من ألمٍ لا يهدأ، وكلُّ دمعةٍ على وجهِ طفلٍ فلسطيني هي صرخةُ التاريخ. في الأفق، يبدو العالمُ بعيدًا، يُصفّق للورقِ الموقّع ويعلن “السلام”، بينما القناصُ يواصل الرماية، والصاروخُ لا يعرف الرحمة، والصمتُ العربيُ يكتفي بالمشاهدة.

أيُّ سلامٍ هذا الذي يُوزَّع على الورق ويُقاس بالتصريحات، ويُباع فيه حقُّ الطفل والمرأة والبيت، بينما الدماءُ، والأنينُ، والرعبُ، تظلُّ الحقيقة الوحيدة؟

منذُ أيّامٍ، قامتِ الدُّنيا ولم تَقعُد على خبرِ توقيعِ وقفِ إطلاقِ النار بين حركةِ حماس والكيانِ الإسرائيلي، وتناقلتِ الوكالاتُ والمَحافلُ الدوليةُ الخبرَ وكأنَّهُ نصرٌ عظيم، وفرِحَ العالَمُ بما سمّوه "توقّفَ القتل"، وكأنَّ الأرواحَ التي أُزهِقت، والبيوتَ التي سُوِّيَت بالأرض، والطفولةَ التي ذُبحت، يمكنُ أن تُعادَ بمجردِ حبرٍ على ورق.

بحضورِ الرئيسِ الأمريكيّ، الذي كان ولا يزال اللاعبَ الأساسيَّ في تحريكِ ربيبتِه الصغرى نحوَ مزيدٍ من الدماءِ والخراب، يوقّعُ على ما يسمّونه “اتفاقَ سلام”، وهو في الحقيقةِ ورقةُ هدنةٍ مؤقتةٍ تُخفي وراءها رائحةَ البارودِ ودموعَ الأمهاتِ في بيوتٍ هُدِّمت على رؤوسِ ساكنيها.

منذُ عقودٍ من الزمن، ونحنُ نعلمُ أنَّ الصهاينةَ لا عهدَ لهم ولا يؤتمنُ جانبُهم، فلا تُؤخذُ منهم كلمةٌ واحدة، فهم ناقضونَ للعهودِ على مرِّ التاريخ، يبتسمونَ في وجوهِ الدبلوماسيين، ويغرسونَ خناجرَ الغدرِ في صدورِ الأبرياء.

وليلةَ أمس، عادَ القصفُ والقتلُ من جديدٍ على الفلسطينيين، وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنَّ ذلك الحبرَ الذي وُقِّعَ به على الاتفاقية لم يكن سوى ماءٍ سالَ على رمالٍ متحرّكة، لا يثبُتُ فيها وعدٌ ولا يُكتَبُ فيها عهد.

تَبخَّرتِ التصريحاتُ الإعلاميّةُ التي رافقتِ المشهدَ كما يتبخّرُ الضوءُ الكاذبُ قبلَ الفجر، وظهرَ للعالَمِ مرّةً أخرى أنّ ما يُسمّى “اتفاقَ وقفِ إطلاقِ النار” لم يكن إلّا استراحةَ مقاتلٍ، يُعيدُ فيها العدوُّ ترتيبَ أسلحته، قبل أن يواصلَ مجازرَه بدمٍ باردٍ، وبتواطؤٍ عالميٍّ مفضوح.

وأينَ العربُ اليوم؟

أولئك الذين خُدِعوا كما خُدِعوا من قبل، الذين تغنَّوا بهذا “النصرِ العظيم”؛ فمنهم من نسبَ الاتفاقَ إلى نفسه، واعتبرهُ إنجازًا دبلوماسيًّا يُضافُ إلى رصيده، ونسِي أو تناسَى الدمَ الفلسطينيَّ الذي لا يزالُ يُسقي ترابَ فلسطينَ الطاهرة كلَّ صباحٍ ومساء، دماءٌ تصرخُ في وجهِ كلِّ من باعَ الصدقَ تحتَ لافتةِ “السلام”، وفي وجهِ كلِّ من سمّى الهدنةَ نصرًا، وسمّى السكوتَ بطولة.

فلسطينُ لا تُخدعُ بالأوراق، ولا تَسكنُ تحتَ رمادِ الكلام؛ فدماؤها هي التي تكتُبُ الحقيقة، وحقيقتُها أنَّ السلامَ لا يولَدُ من رحمِ الجريمة، ولا من أقلامِ القتَلة.

وفي النهاية، لا يضلُّنا الورقُ ولا تخدعنا الكلماتُ المزيَّفة، فكلُّ اتفاقٍ وُقِّعَ باسم “السلام” أمام العالم لم يكن إلا وهمًا مؤقتًا. والدماء التي تسيلُ على أرضِ فلسطين هي التي تذكرنا أن الصهاينة لا عهدَ لهم، ولا وعودَ، ولا مواثيق تُؤخذُ منهم بصدق؛ فكلُّ حبرٍ على الورق، وكلُّ تصريحٍ إعلامي، مهما بدا براقًا، لن يُغيّر حقيقةَ الأرضِ والدماءِ، ولن يُعيدَ شرفَ الأطفال والأمهات والبيوت المهدمة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة