محمد البادي
في كلّ عام، يُطلّ تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة كمرآةٍ تعكس ما خفي عن العيون من أوجه الأداء في مؤسساتنا الحكومية، كاشفًا مكامن الخلل، ومواطن القصور، ومظاهر الإهمال التي تتسلّل- أحيانًا- من أبواب اللامبالاة الإدارية أو ضعف الرقابة المالية.
إنّه تقرير لا يُقرأ كوثيقةٍ سنوية فحسب، بل كصرخة وطنية تنبّه إلى أن المال العام أمانة، وأن التفريط فيه، سواء عن قصدٍ أو إهمال، هو خيانةٌ لثقة الوطن وقيادته وشعبه.
لقد بات واضحًا أن بعض حالات الاختلاس أو ضياع الممتلكات العامة لا تنشأ من عبقريةٍ في الفساد، بقدر ما تنشأ من تراخٍ في المتابعة، وغيابٍ للضمير المهني، وضعفٍ في أنظمة المساءلة، مما يجعل الخطأ يتضخم حتى يتحوّل إلى نزيفٍ في جسد الدولة.
يُعدّ جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة أحد أهمّ أعمدة النزاهة في منظومة الحكم العُماني، فهو العين الساهرة التي تراقب أداء المؤسسات، وتُقوِّم الانحرافات قبل أن تتجذّر. يقوم الجهاز بدورٍ رقابيٍّ لا يقتصر على كشف المخالفات فحسب، بل يمتدّ إلى تحليل الأسباب، وتقديم التوصيات، وبناء ثقافة الحوكمة والشفافية داخل مؤسسات الدولة.
ومن خلال تقاريره السنوية، يُعيد الجهاز التذكير الدائم بأن المال العام ليس مالًا بلا صاحب، بل هو حقٌّ مشترك لكلّ مواطنٍ عُماني، وأنّ الحفاظ عليه واجب وطني وأخلاقي وديني في آنٍ واحد.
غير أنّ ما يظهر بين سطور التقرير يبعث على القلق، إذ تتكرّر بعض الملاحظات عامًا بعد عام، في إشارةٍ إلى أن الإصلاح الإداري ما زال يواجه عقبات، وأنّ بعض الجهات لم تُحوّل ملاحظات الجهاز إلى خطط عملٍ فعّالة، مما يُتيح الفرصة لتمدد الإهمال أو تسلّل الفساد بصورٍ مختلفة.
يبدأ الفساد غالبًا من ثغرةٍ إداريةٍ صغيرة، لا من عملية اختلاسٍ ضخمة. إنّ الإهمال الإداري هو البذرة الأولى التي تنمو في تربة اللامسؤولية، حتى تُثمر فوضى في القرار، وتسيّبًا في الأداء، وتراكمًا للأخطاء التي كان يمكن تداركها منذ البداية.
فحين يتأخّر الموظف عن إنجاز معاملاته، أو تُهمل جهة ما الردّ على مخاطباتها الرسمية، أو يُغيب مبدأ الكفاءة في التعيين والترقية، فذلك كلّه ليس مجرّد خطأٍ إداري عابر، بل خللٌ يفتح الباب لاختلالٍ أكبر.
لقد كشف تقرير جهاز الرقابة في غير مرّة عن تقصيرٍ إداريٍّ جسيم، تمثّل في سوء المتابعة، أو ضعف التخطيط، أو غياب التنسيق بين الوحدات الحكومية، وهي ممارسات لا تُهدر الوقت فحسب، بل تُبدّد المال والجهد وتُضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
إنّ الإهمال الإداري لا يحتاج إلى نية فساد ليُدمّر، بل يكفي أن يغيب الحسّ بالمسؤولية، وأن تُدار المؤسسات بعقلٍ روتينيٍّ جامدٍ لا يرى في الوظيفة سوى حضورٍ وانصراف، دون روحٍ أو ضميرٍ أو هدفٍ وطنيٍّ سامٍ.
إذا كان الإهمال الإداري هو البوابة، فإنّ الإهمال المالي هو الطريق الذي يعبر منه الفساد إلى المال العام. فحين تضعف الرقابة على المصروفات، وتُهمل مراجعة الحسابات، أو تُمرَّر العقود دون تدقيقٍ كافٍ، يبدأ المال العام بالتسرّب خلسةً من بين أيدي الأمناء إلى جيوب العابثين.
وقد أشار تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة في أكثر من مناسبة إلى مخالفاتٍ ماليةٍ مقلقة، تتنوّع بين سوء التصرف في الاعتمادات، وصرف مكافآت دون وجه حق، وغياب المستندات المحاسبية الدقيقة، وكلّها مظاهر تعكس خللًا في منظومة المتابعة والمساءلة.
إنّ المال العام ليس أرقامًا في دفاترٍ حكومية؛ بل هو عَصَب التنمية ووقود المشاريع التي ينتظرها المواطن. وإهماله أو التهاون في حمايته يعني المساس بمصالح الشعب بأسره. وما يزيد خطورة الإهمال المالي أنّه لا يُكتشف إلا بعد أن تتسع الفجوة وتتعاظم الخسائر، فيتحوّل الخطأ الصغير إلى قضيةٍ كبيرة، والملاحظة إلى ملفّ تحقيق.
ولذلك، فإنّ بناء منظومة مالية شفّافة لا يتحقق فقط بالقوانين، بل بثقافة مؤسسيةٍ تؤمن أن الأمانة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوكًا يُمارَس، وأنّ المال العام أقدس من أن يُهدر أو يُتلاعب به.
الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بتبادل الاتهامات؛ بل بمواجهة الخلل بشجاعةٍ، ووضع الحلول بصدقٍ وإرادةٍ حقيقية. وإذا كان تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية قد كشف عن مواطن القصور، فإنّ ذلك لا يعني الإدانة بقدر ما هو فرصة لإعادة البناء وتصحيح المسار.
إنّ أولى خطوات الإصلاح هي ترسيخ مبدأ المساءلة والمحاسبة بلا استثناء، بحيث لا يكون المنصبُ غطاءً، ولا تكون الوظيفةُ حصانةً، فالقانون يجب أن يُطبَّق على الجميع بعدالةٍ وشفافية. كما ينبغي تطوير أنظمة الرقابة الداخلية في كل جهةٍ حكومية، وربطها إلكترونيًا بآليات متابعة دقيقة تتيح الاكتشاف المبكر لأي تجاوزٍ مالي أو إداري.
لكن الإصلاح لا يكتمل بالأدوات التقنية وحدها؛ بل يحتاج إلى إحياء الضمير الوظيفي، وتعزيز ثقافة الانتماء للمصلحة العامة، فكل موظفٍ هو حارسٌ على أمانة الوطن في موقعه. ولا يمكن لأي جهاز رقابي أن ينجح ما لم يكن في قلب كل موظفٍ "رقيبٌ من ضميره" قبل أن يكون عليه رقيبٌ من مؤسسته.
إنّ وطننا يستحق إدارةً واعية، وموظفًا نزيهًا، ومؤسسةً تعمل بشفافيةٍ وإخلاص، لأنّ الرقابة ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلةٌ لحماية التنمية وصيانة إنجازات النهضة العُمانية التي أرسى دعائمها القائد، وحمل مسؤوليتها أبناء هذا الوطن المخلصون.
إنّ تقارير جهاز الرقابة الإدارية والمالية ليست مجرّد أوراقٍ تُقدَّم سنويًّا، بل هي نداء ضميرٍ وطنيٍّ عميق، يدعو إلى أن نقف جميعًا أمام مسؤولياتنا بشجاعةٍ وأمانة. فالإهمال- أيًّا كان نوعه- ليس خطأً إداريًّا عابرًا، بل شرارةٌ صغيرة قد تُشعل نار الفساد إن لم تُطفَأ بالوعي والمحاسبة.
وحين نُدرك أنّ المال العام هو مالُ كلّ مواطن، وأنّ الحفاظ عليه هو حفاظٌ على مستقبل الأجيال، سنفهم أنّ الرقابة ليست عقوبةً؛ بل درعُ حمايةٍ للوطن من نزيف الهدر واللامسؤولية.
ومن هنا، فإنّ بناء منظومةٍ إداريةٍ وماليةٍ نزيهةٍ يبدأ من الفرد، ويتكامل في المؤسسة، ويترسّخ في الدولة، ليبقى عُمانُنا نموذجًا في النزاهة والعدالة وحُسن الإدارة.
