د. عبدالله باحجاج
نقف في هذا المقال لافتين ومُلفتين لشيء خارج عن المألوف، لقضية لا تتوفر لها الاهتمامات المُستحقة حتى الآن، رغم ملامح خطورتها المقبلة، فما يظهر فوق السطح لا يُعالج من أسبابه، وإنما هو بين الإدارات الأمنية، وبين تركِهِ يتراكم، ما أفرز مجموعة تراكمات بنيوية، وهذه القضية هي مستقبل التعددية الطائفية والإثنية في منطقة الخليج؛ فهناك عدة عوامل داخلية وخارجية تدق ناقوس الخطر على تجانسها في كل دولة خليجية- مع التباين- وسواء التقت العوامل الداخلية مع الخارجية أو لا؛ فالمخاطر جسيمة، فكيف إذا ما التقت في حقبة العبث بخارطة المنطقة في مرحلة ما بعد غزة؟!
هنا ينبغي أن نطرح تساؤلات افتراضية من حيث المبدأ؛ منها: ما يتعلق بمستقبل تجانس التعددية في كل دولة؟ وهل السياسات الحكومية الجديدة تعمل على استدامة هذا التجانس، الذي يُطلق عليه الوحدة الوطنية، بوعي التحولات الجديدة، وأسباب انفجار التعددية في سوريا والعراق ولبنان واليمن مثلًا، وكيف تحول الصراع فيها إلى حرب أهلية ممزوجة بهويات مذهبية وإثنية مع استثمارها من قبل دول إقليمية... إلخ.
وعندما نتعمق في تلكم الأسئلة من منظور اطلاعنا على خارطة التعددية في كل دولة خليجية، وجدناه واقعًا مُركَّبًا ومعقدًا جدًا؛ لأنه واقعٌ تتداخل فيها عدة عوامل وبنى وقوى اجتماعية واقتصادية وثقافية في آنٍ واحدٍ. ولما بحثنا في تاريخية صناعة تجانسها، وجدنا أن بعضها يقوم على الحد الأدنى من التجانس، وهذا يعني أنه أكثر احتمالات الانهيار؛ سواءً لأسباب داخلية أم خارجية، وقد تتقاطع الأسباب كلها في وقت واحد. وصناعة هذا التجانس وراؤه الإدارة السياسية في كل عاصمة خليجية، فقد وظَّفت الاقتصاد والتنمية لاحتواء واستيعاب التعدد المذهبي والقبلي، الاجتماعي والثقافي والفكري والجغرافي.
ونجاح الإدارة السياسية يكمن في جعل التعدد يتعايش ويتجانس داخل حدوده الوطنية، رغم امتدد بعض مكوناته مع الخارج، وأصبح العاملان الأمني والقضائي ضامنين لهذه التجانس، وحجتهما كانت أقوى على الفرد والجماعة أو الجماعات، عندما يحدث جنوح نحو الذات الإقصائية والاستعلائية؛ وذلك على اعتبار أن هناك حقوقًا اقتصادية اجتماعية، وحريات لكل مُكوِّن مُتعدِّد، ولو في الحدود الدنيا للبعض، تؤمِّن لهم الحكومات.
والملاحظ الآن تخلي الاقتصاد والتنمية في القيام بنفس الأدوار التاريخية المؤسِّسة للتجانس، بسبب الأزمات المالية والاقتصادية، وترسيخ سياسات وخطط الأزمات في إحداث نقلة استراتيجية في دور الدولة الخليجية، من الدور التدخُّلي إلى دور نيوليبرالي يعتمد على نظام الجبايات وكافة الأدوات الضريبية؛ ما أحدث تغيُّرات بنيوية في أركان استقرار المجتمعات وتوازناتها، وتحول التفاؤل إلى تشاؤم، ومن الاطمئنان إلى القلق. ومن ثم أصبحت معها التعددية ترتد على ذاتيَّتِها، وتُعيد تعريفها بخطابات "الأنا- نحن- هُم" مع الاعتداد بالهُوِيَّات الفرعية، وتستدعيها بسرديات قديمة، في ظل تنامي الوعي العام بحقوق المواطنة الشاملة؛ بما فيها السياسية، كاستحقاقاتٍ وليس كمنحةٍ. وهذا قد أصبح من كُبرى التحولات الاجتماعية والسياسية الآن في الخليج. فهل الفكر السياسي الخليجي على وعيٍ بهكذا تحولات ومآلاتها؟
انشغالات دول المنطقة الآن تنصب على تعزيز قوتها الخشنة، وقد أطلقت الإنذار المبكر نحو تعزيز أنظمة مواجهة الأخطار المتعددة؛ سواءً كانت عسكرية (مثل الصواريخ الباليستية) أو طبيعية وبيئية (مثل الكوارث المناخية والأوبئة)، وتحديث خطط الدفاع المشتركة، وتفعيل تبادل المعلومات بين الدول، وإعادة تحالفاتها الإقليمية والعالمية لدواعي شراء أسلحة ذات تقنية عالية. وأصبحت الدول المُصنِّعة لهذا السلاح تتسابق في الدخول مع دول المنطقة في تحالفاتٍ، استغلالًا للسيكولوجية السياسية لدول الخليج، بعد التوترات والحروب الأخيرة في المنطقة، وتتجاهل الحروب الداخلية التي قد يُنتجها انهيار التجانس.
لذلك نقول إنَّ تجاهل الحكومات أو تأخيرها في إدارة التعددية، سيكون من كبرى الأخطاء الاستراتيجية؛ فالمخاطر ستكون متعددة سياسية واجتماعية، وقد وجدنا بعض الدراسات المُستقلة تحصر هذه المخاطر في تصاعد الهويات الفرعية الضيقة، كما يغيب الإطار الوطني الجامع والضامن لحقوق وحريات الفرد والجماعة، وكذلك تفكُّك الثقة بين الحكومات والمجتمعات، وانفجار صراعات سياسية واجتماعية، مع استغلالها خارجيًا من قوى إقليمية ودولية. لذا لا بُد من إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية والتنموية للدول الخليجية، وإعداد مشروع وطني مُستدام- بصورة عاجلة- يُعيد الأمل للمجتمعات، وخاصة جيل الشباب الذين يُشكِّلون هاجسًا مستقبليًا للتعدد في الخليج.
ولن نبالغ إذا ما قلنا إن المنطقة في مرحلة وجوبية إطلاق إنذار مُبكِّر مُماثِل للحفاظ وتعزيز مُكتسب تجانس التعدُّد في إطار وحدتها الوطنية، وذلك عبر عودة إدارتها السياسية لهذا الملف والتخلِّي عن أُحادية تركيزها على الجبايات، والاستمرارية الخاطئة في الدولة الريعية، دون انعكاساتها الاجتماعية؛ فهذا يُبدِّد أي استقرار اجتماعي مُكتسب طوال العقود الماضية، والضحية الكبرى سيكون مُكتسب التجانس بين المُكوِّنات.
هذا يعني أنه يستوجب على كل دولة أن تفتح عاجلًا هذا الملف لإدارتها السياسية الحصرية، ومن خارج صندوق تفكيرها الاعتيادي؛ لأن التعدُّد الطائفي والإثني قد أصبح مُستهدفًا في كثيرٍ من دول المنطقة، وقد قَلَبَ عاليها سالفها، ولا يبدو الحل فيها إلّا من خلال تشطُّرات جغرافية أو حكم ذاتي تحت وصاية إقليمية ودولية، وأيضًا لن نبالغ إذا ما ذهبنا بتفكيرنا الآن إلى القول إن الفكر التآمري قد انتهى من مرحلة التخطيط، ويترقَّب التنفيذ الذي سيكون إمَّا بمباركة دولية أو استغلالًا للتوترات الداخلية- لا قدر الله- في حقبة تحقيق الأجندات والمصالح الجيوسياسية بأدواتٍ ناعمةٍ، ولن تكون أي دولة في منأى عن الاستهداف إلّا وفق حسابات زمنية مُمنهَجة، أو بالقدر الذي يُؤخِّرها للاستفادة من وَهْمِها المُصطنع بأنها خارج الاستهداف.
