زمن الأشياء الباهتة

د. هبة العطار

 

حين تضيع قيمة الأشياء، لا تعود للحياة ملامحها الأولى. كل ما حولنا يصير نسخة شاحبة من ذاته، كأن الضوء ذاته صار يتعثر في العتمة. الأشياء لا تموت فجأة، لكنها تذبل فينا ببطء، حين نكفّ عن الإيمان بها. فالقيمة لا تُفقد من الخارج، بل من داخلنا، حين نتوقف عن منحها معناها.

نكتشف متأخرين أن الامتلاء لم يكن في ما نملك؛ بل في ما نشعر به تجاه ما نملك. فحين تُفرغ الأشياء من معناها، تظل بين أيدينا لكنها لا تسكن أرواحنا. المال، المنصب، التصفيق، كلها أوهام مجسّدة لقيمةٍ زائلة. ما جدوى الارتفاع إن كان الصعود على سلّمٍ من هواء؟

النضج لا يمنحنا راحة؛ بل بصيرة مؤلمة، تكشف لنا هشاشة ما كنّا نعدّه عظيمًا. نرى الوجوه بلا أقنعة، والنجاح بلا جوهر، والكلمات بلا روح. نكتشف أن الكثرة ليست غنى، وأن الامتلاك ليس حضورًا. حين ندرك ذلك، لا نغضب بقدر ما نصمت، صمت الحكماء الذين تجاوزوا الحاجة إلى التبرير.

وفي زمن الأشياء الباهتة، تتشابه الوجوه وتضيع الفروق بين ما يُقال وما يُعنى، بين الكلمة ومعناها الحقيقي. الناس يتحدثون كثيرًا، لكن لا أحد يقول شيئًا، يتحركون بلا وعي، يصفقون بلا فهم، ويعيشون كما لو أن الحياة مجرد عادة متكررة لا تحتاج روحًا ولا دهشة. وسط كل هذا الزخم، يخفت فينا النور القديم، ويصبح الصمت أصدق من المشاركة في الزيف العام.

النضج يجعلنا نرى الأشياء كما هي: مؤقتة، قابلة للذبول، محدودة اللمعان. فلا شيء يستحق أن نمنحه أكثر مما يحتمل. نتعلم أن نترك الأشياء تمضي دون أن نحملها معنا، لأن منتهى الحكمة أن تدرك أن البقاء للأعمق لا للأكثر صخبًا.

ليست كل الأشياء التي نفقدها تستحق العودة؛ فبعضها يختفي لأننا تجاوزناه، لا لأننا خسرناه. حين تفقد الأشياء قيمتها في وعينا، تنزلق إلى العدم، تغيب كأنها لم تكن، كأن وجودها كان مجرد ظلٍ مرّ بالعمر دون أن يترك أثرًا. النضج الحقيقي ليس أن نتمسك بما ذهب، بل أن ندرك أن الذهاب كان هو الخلاص، فالأشياء التي تفقد بريقها تسقط من مدار الوعي كنجمة انطفأت بعد أن استهلكت ضوءها، وما لا يملك معنى لا يملك بقاء. وهكذا نصبح أهدأ لأننا نرى الأشياء على حقيقتها: مؤقتة، واهنة، لا تملك من حضورها إلا ما نمنحه نحن من وعينا، وعندما نسحب عنها هذا الوعي تنتهي ببساطة دون ضجيج ودون أسف، لأن الفقد أحيانًا ليس نقصًا؛ بل نقاء، أن تُصفّي ذاكرتك من الزوائد وتُبقي فقط ما يليق بالروح أن تتذكره، فكل ما مات في وعينا لم يعد موجودًا في الكون، لأننا نحن من كنّا نمنحه الوجود.

كأن الأشياء حين تفقد معناها لا ترحل؛ بل تتحول إلى صمتٍ شفيفٍ يملأ الفراغ من حولنا، فنمضي بينها غرباء، نلمس ما كان حيًّا دون أن نحس نبضه. كل ما لم يعد يضيء، يذوب في المسافة بين الذاكرة والنسيان، كأنه لم يكن يومًا. وربما في ذلك النقص العميق يكتمل المعنى؛ إذ لا نرى الوجود إلّا بعد أن نجرّب اختفاءه، ولا نفهم الامتلاء إلّا ونحن ندور، بخفةٍ متعبة، في مدار الفراغ.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة