اتجاهات ومسارات غير مدروسة بعمق

 

د. عبدالله باحجاج

بدأنا نرصد اتجاهات دون التعمق في مساراتها ومآلاتها على الدولة والمجتمع معًا، ولا بُدّ من التوقّف عندها لتوضيح الرأي الآخر لها، وذلك حتى تكون فوق طاولتنا السياسية كل نتائجها وتداعياتها.

هذه الاتجاهات لها مساران رسميان؛ أحدهما عمومي، والآخر خاص، وكنموذج للقرار العام، هناك القرار الوزاري المتعلق بحقوق عمال المنازل ومن في حكمهم، ولن نتوقف عنده طويلًا، فقد أُشبع نقاشًا من قبل بعض الزملاء ويستحوذ على نقاشات التواصل الاجتماعي، وقد وصفناه في إحدى تغريداتنا بأنه خطوة راديكالية فوق المسير المعتاد منذ خمسة عقود، لماذا؟

لأنه يفتقر إلى فلسفة التنظيم والتقنين للمجال المنزلي العُماني، ويعمّق الانفتاح الاجتماعي من بوابة عمال المنازل، فهل كُنَّا مضطرين لمواءمة تشريعنا بالتشريعات الدولية في مجال حقوق عمال المنازل، أم أن وراءه هاجس المساواة بما هو سائد في التشريعات الخليجية؟ قد يُفسر البعض القرار بأنه له علاقة بانضمام بلادنا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لكن تحفظات بلادنا على بعض أحكام العهد الدولي، وكذلك تقديم تفسيراتها الخاصة ببعض أحكامه، يُدلِّل على الإرادة السياسية الواعية لحماية الثوابت العُمانية، وعدم ذوبانها في الحقوق والحريات الكونية التي تستند إلى مرجعيات مختلفة عن مرجعياتنا الأيديولوجية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

وقرار الانضمام للعهد الدولي يسمح للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بمتابعة ورقابة تشريعاتنا الوطنية في مجال حقوق الإنسان وتطبيقاتها، ومدى مواءمة الجوانب النظرية والتطبيقية مع التشريعات والضمانات المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية. لكن، في حالتنا العُمانية سيكون من منظور التحفظات والتفسيرات العُمانية، ونظريًا نتساءل هنا: لماذا لا يكون قرار حقوق عمال المنازل في مستوى مراعاة البيئة العُمانية وخصوصياتها، خاصة إذا ما علمنا بأن مجتمعنا يستفرد إقليميًا ودوليًا بمعاملة عمال المنازل بصورة نموذجية.

أما النموذج الثاني (القرار الخاص) فيتمثل فيما يجري من إقصاء الذين بلغوا سن 35 سنة من حق بعض الوظائف المعروضة للباحثين عن عمل، وفقًا لما رصدناه مؤخرًا، وهنا غياب واضح للواقعية السياسية وللفلسفة الاجتماعية. وكقاعدة عامة، فإن تحديد سنٍّ للوظائف هو إقصاء، وشكل من أشكال التمييز بين المواطنين، مع التسليم به كاستثناء؛ فهناك وظائف وأعمال تُحتِّم سنًا معينًا، لكن ليس كمبدأ عام؛ لأن ذلك يمس بحق تكافؤ الفرص المنصوص عليه في النظام الأساسي للدولة، ولا يأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي تجعل الكثير من شبابنا يدخلون هذا السن دون عمل.

وإذا ما أقرت الجهات الحكومية هذا الأمر، فإن حق المواطنة يُحتِّم إيجاد فرص عمل لهذه الشريحة السنية، فدخولهم هذا السن وهم في انتظار الوظائف يعد مُبرِّرًا آخر يشفع لهم هذا الحق لانتفاء السبب الشخصي، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن كل باحث عن عمل، حتى أولئك الذين تخرجوا حديثًا، تتغلغل في سيكولوجيتهم عُقد القلق، وبعضهم الخوف من دخولهم سن الإقصاء. ونلمس هذا الشعور في محافظة ظفار، فكلما أخفق أي شاب في اختبارات الوظائف المحدودة، ينتابه القلق من شبح تقادم السن وهو لا يزال باحثًا عن عمل. وهذه سيكولوجية خطيرة إذا ما تعممت عند الشباب؛ لأنها تصنع الانهزامية واليأس وغياب الأمل، وبالتالي لا بُدّ من تبديدها عبر صناعة وعي مسؤول وملتزم، وهنا نتساءل: أين إعلامنا في مثل هذه الصناعات؟

وعندما علمنا عن إحصائيات عدد الباحثين في ظفار، والتي ذكرها الأخ عماد الشنفري رئيس اللجنة الصحية والبيئية بالمجلس البلدي لمحافظة ظفار، أدركنا حجم هذا القلق والخوف؛ فالعدد المنتظر لحق العمل كبير جدًا، وربما تكون ظفار الأولى في العدد -وفق الشنفري- وبالتالي قد يكون القلق والخوف طبيعيين عند الشباب مقارنة بعددهم المتصاعد والمتراكم بعدد الوظائف التي تُعرض، أي الطلب الكبير مقابل العرض المحدود، وبالتالي ليست هناك مقارنة بين الطلب والعرض، بينما يظل ملف الباحثين عن عمل بعيدًا حتى الآن عن إيجاد حلول آمنة للعدد التراكمي التصاعدي للباحثين، وقدمنا الكثير من الحلول الموضوعية في مقالات سابقة.

وهنا نطالب عاجلًا بالتدخل لحل معضلة السن لإطفاء نار القلق والخوف، وحتى لا تترسخ مفاهيم وقناعات جديدة تضيف لحلقات تعقيدات ملف الباحثين استحكامات يستحيل فكها؛ حيث ستؤسِّس ثقافة سلبية، مثل: من بلغ سن 35 يسقط حقه في العمل، وكذلك الحكم على من بلغ ذلك السن بانتهاء عطائه، ولو ترسخت هذه الثقافة والمفاهيم، نكون قد حكمنا على التفاؤل عندهم بالانعدام والإعدام، وسيجدون أبواب شياطين الإنس والجن مفتوحة لهم على مصاريعها ومغرية جدًا، ولن يترددوا!

لذلك نحتاج من إعلامنا صناعة محتوى خطابٍ مسؤول، يغرس في ذهنيات الشباب الأمل، ويوجههم بأن فقدان الأمل "مرحليًا" صحيح أنه يُبهت الأشياء من حولهم، لكنه لن يُطفئ النور، وأنه آتٍ لا محالة، وأن القادم أفضل، ليس بالأحلام، وإنما من خلال متابعة استقصائية وطنية لحجم المشاريع الاقتصادية الكبرى الجديدة، وما تنتجه من فرص عمل واعدة، وكذلك متابعة نقدية موضوعية لأدوات وأساليب استحقاقات فرص العمل المعروضة، فكل من يصرح بالآلاف من فرص عمل، ولا يوفي بها، ينبغي أن يُحاسب عليها.

ومثل تلك الاتجاهات -قرار حقوق عمال المنازل، وإقصاء من بلغوا 35 سنة من الوظائف- تُذكِّرنا بطبيعة الفكر الذي وقف وراء إحالة الآلاف ممن بلغوا سن الـ60 عامًا أو قضوا 30 سنة في الخدمة إلى التقاعد، دون أن تقوم كل وزارة بالاحتفاظ بكفاءاتها وخبراتها، ما تسبب في تفريغ بعض الوحدات الحكومية من عامل الخبرة ومن النضوج المعرفي والعملي، واستبدالهم بسنٍّ دون عمق الخبرة، تحت جنوح أزمة شَرعنت عملية استبدال السن بسنٍّ دون عمق الخبرات والنضوج.. إلخ.

وكل مسؤول رفض الاستفادة من استثناء 30% من التقاعد الإجباري كانت مسوغاته عدم الدخول في إشكاليات الاستثناء، والبعض وجد فرصة لبسط إدارة ذاتية مطلقة في بيئة سنية حديثة، أي مع أطر وكوادر دون أعماق. وحتى نخاطب الواقعية المجرّدة نطرح التساؤل التالي: هل ينبغي الرهان على حداثة عامل السن دون عمق الخبرة ونضوجها؟

التساؤل يختزل القضية المطروحة بهذا الاختصار، ويكشف هذا الاختصار كذلك عن الأسباب التي تقف وراء الاستياء والإحباط المجتمعي، ولا تجعل الإيجابيات الكثيرة في بلادنا تشق طريقها نحو الذهنيات الاجتماعية وترفع التفاؤل.

الأكثر قراءة