أحمد الفقيه العجيلي
حين تنهار دولة أو تندثر حضارة، يتسابق كثيرون في توجيه أصابع الاتهام نحو الخارج: غزو، استعمار، حصار اقتصادي، مؤامرات دولية... ولكن التاريخ، حين يُقرأ بعين ناقدة لا عاطفية، يروي قصة مختلفة: الحضارات لا تُقتل من الخارج، بل تموت من الداخل.
قد تبدو الأسباب الظاهرة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، لكن السبب الجذري غالبًا ما يكون أعمق: فساد متجذر، ظلم مقنّن، دين مهمّش، ورسالة ضائعة. وهذه ليست استنتاجات فلسفية، بل حقائق أكدها القرآن الكريم نفسه، حين تحدث عن مصير الأمم السابقة. لم يربط هلاكها بعجزها عن التسلح، ولا بضعف مواردها، بل بإعراضها عن رسالات السماء، وانغماسها في الفساد والطغيان.
في لحظات السقوط، لا تكون الهزيمة أمام العدو؛ بل أمام الذات. الخلل يبدأ حين تفقد الأمة بوصلتها، وتختار أن تعيش بلا مبادئ، أو تستبدل دينها بمعايير دنيوية لا تصمد في وجه التحديات.
انظر مثلًا إلى الدولة العباسية في أواخر عهدها، كانت تمتلك من الثروات والمعارف ما يفوق أعداءها، لكن الترف والفساد والصراعات الداخلية جعلت بغداد لقمة سائغة في يد المغول. لم يُسقطها هولاكو بقدر ما أسقطها ضعفها الداخلي.
وقبلها، الأندلس، التي كانت منارة علم وثقافة، انقسمت على نفسها إلى دويلات متناحرة، حتى ضاعت بين مطامع الخارج وخيانات الداخل. لم تسقط لأنها كانت ضعيفة عسكريًا، بل لأنها فقدت وحدتها وقيمها وأصبحت مهيأة للسقوط.
الحضارات الحقيقية لا تبنى فقط على الجيوش والسلاح، بل على القيم والعدل والإيمان.
وما لم تتمسك المجتمعات بأسسها الأخلاقية والدينية، فإن كل ما تبنيه من عمران وقدرة سيبقى هشًا، ينتظر صدمة واحدة لينقضّ.
لذا، فإن السؤال الأهم ليس: من أسقطنا؟ بل: لماذا كنا قابلين للسقوط؟ وهل ما زلنا نملك فرصة للنجاة من الداخل قبل أن نُهزم من الخارج؟