د. ذياب بن سالم العبري
حين نتأمل المشهد الأكاديمي اليوم، ندرك أن الشهادات العليا لم تعد مجرد محطات دراسية في مسيرة الفرد؛ بل صارت عنوانًا لمسؤولية أكبر من حدود الذات؛ فكل شهادة عليا هي وعد بالالتزام تجاه المعرفة، وأمانة أخلاقية تُحمّل صاحبها واجبًا مضاعفًا في خدمة وطنه ومجتمعه. ومن جعل من علمه لبنة في بناء وطنه، فقد ارتقى بالشهادة إلى معناها الأسمى، أما من اختزلها في وجاهة أو ترفٍ اجتماعي، فقد جرّدها من قيمتها وأثقلها بفراغٍ لا طائل منه.
إنَّ القيمة الحقيقية لهذه المؤهلات لا تكمن في تحسين الوضع الوظيفي أو نيل الترقية فحسب؛ بل في قدرتها على تشكيل عقلية ناقدة، محلّلة، مؤثرة. إنها وسيلة لتوسيع الأفق، وبناء إنسان قادر على المشاركة في مشروع وطني يتجاوز ذاته. ولهذا، فإنَّ المجتمعات التي تحسن استثمار هذه الطاقات لا تُبنى بالشعارات؛ بل بالعقول المؤهلة، والنوايا الصادقة، والإرادة القادرة على تحويل الفكر إلى أثر ملموس.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل ظواهر سلبية تُلقي بظلالها على المشهد، حين تتحول الشهادات إلى مظاهر اجتماعية، أو أدوات للتفاخر الطبقي، أو أوراق تُنتج بلا جهد حقيقي ولا ارتباط بالواقع. إن اختزال الدراسات العليا في أهداف ضيقة، أو الارتهان لأبحاث منسوخة لا تُلامس بيئتنا، يُفقدها قيمتها ويُقصيها عن مسارها المفترض.
لقد وضعت رؤية "عُمان 2040" التعليم والبحث العلمي والابتكار في صميم التوجه الوطني، وفتحت أمامنا فرصة تاريخية لإعادة صياغة دور الكفاءات العلمية. لكن هذا النجاح مشروط بقدرتنا على تحويل المعرفة إلى ممارسة، والبحث إلى حلول، والفكر إلى مشاريع قابلة للتنفيذ. وهنا تتسع دوائر الحاجة إلى أن تُسخّر الطاقات الوطنية في ميادين التكنولوجيا الناشئة كالذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية والتحول الرقمي الصناعي، وفي الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية كدعائم للأمن الغذائي عبر الزراعة الدقيقة والري الذكي والاستدامة البيئية، وفي الأبحاث الأدبية والإبداعية لترسيخ الهوية الثقافية وصناعة وعي مجتمعي متوازن، وفي مجالات الطاقة والبيئة التي تفرض علينا إيجاد حلول توازن بين التنمية والحفاظ على الموارد الطبيعية.
وإذا كانت هذه هي حاجاتنا الوطنية، فإن العالم قد سبقنا إلى إثبات جدوى هذا النهج؛ فالتجربة الكورية الجنوبية تؤكد أن الاستثمار في الأبحاث التطبيقية قادر على تحويل دولة نامية إلى قوة صناعية وتقنية كبرى خلال عقود قليلة، فيما جعلت سنغافورة من مراكزها البحثية منصة لسياسات وطنية نقلتها إلى مصافّ الدول المتقدمة في الصحة والتعليم والتقنية. أما فنلندا فقد أثبتت أن البحث العلمي في التعليم قادر على صياغة نموذج مدرسي عالمي، بينما رسّخت ألمانيا مكانتها الصناعية عبر ربط الجامعات بالقطاع الصناعي مباشرة من خلال المعاهد التطبيقية. هذه التجارب جميعها تُثبت أن الشهادات العليا ليست قيمة بذاتها، بل بقدرتها على الإسهام في التحول الوطني وصناعة المستقبل.
إن قيمة الشهادة لا تُقاس بورقها؛ بل بأثرها. ومكانة العالِم لا تُمنح له، ولكن يصنعها بما يقدمه من نفع، وما يتركه من بصمة، وما يغرسه من وعي وأمل في طريق وطنه. ومن هنا، فإن الانتقال من مرحلة التراكم الكمي للشهادات إلى مرحلة التوظيف النوعي لها بات ضرورة، عبر دمجها في صميم السياسات التنموية وربطها بحاجات المجتمع وتسخيرها في خدمة الوطن والمواطن.
وفي نهاية المطاف، تبقى الحقيقة جلية: إن الدراسات العليا ليست نهاية الطريق؛ بل بدايته، وليست غاية للتفاخر؛ بل التزام وطني طويل الأمد. والمجتمع الذي يضع المعرفة في موقعها الصحيح، ويُحسن توظيفها في مراكز البحث، ويشجّع أصحابها على الإبداع، هو المجتمع الذي يكتب تاريخه بمدادٍ من وعي، ويصوغ مستقبله بعقول أبنائه، ويثبت للعالم أنَّ المعرفة في عُمان ليست ترفًا؛ بل رسالة ومسؤولية ونهج حياة.