د. صالح بن ناصر القاسمي
يُولد الإنسان وهو مُزود بفطرة مزدوجة تجمع بين نزعة الخير ونزعة الشر، وعليه أن يخوض مشوار حياته القصير مهما طال في حساب الزمن، وهو في صراعٍ دائمٍ بين فضيلة الخير ورذيلة الشر. قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7- 10).
فإنَّ تزكية النفس إنما تكون شاملة لكل فضيلة وسمة أخلاقية واجتماعية وفكرية، تهدف في بدايتها إلى إصلاح نفس الإنسان، ثم تمتد لتشمل صلاح المجتمع بأكمله. أما دسّ النفس وإخفاؤها في المعاصي والرذائل فهو انحراف عن الفطرة السليمة ومخالفة لكل فضيلة أخلاقية، ونتيجته ضررٌ يعود على الإنسان ذاته وعلى مجتمعه الذي يعيش فيه.
ولذلك فإنَّ الإنسان سويّ الفطرة، دائمًا ما تجده حريصًا على البحث عن الفضائل، لأنها البوصلة التي تهديه نحو الصلاح الفردي والجمعي، ولأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، فإنه يطمح ويعمل على أن يكون مجتمعه مجتمع فضيلة، تسوده الأخلاق، ويعمه الصلاح، وتحكمه العدالة، وتظله القيم النبيلة.
وحين يظهر أي خلل أخلاقي في المُجتمع، فإنَّ ذلك يثير حفيظة كل إنسان سوي تربى على الفضيلة، إذ يراها أساس إنسانية المجتمع، وبدونها يفقد المجتمع عماده الذي يقوم عليه. وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى في قوله: ﴿إِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).
والتولي هو الابتعاد عن الإيمان الذي يشمل في مضمونه كل الفضائل، والانصراف عن قيم الخير التي بها يُحفظ كيان الأمة وتستقيم حياتها.
ومن هنا، فقد أوجد الإسلام حلولًا وأساليب راقية للتصدي لكل خللٍ يظهر في المجتمع، ومن أهم تلك الأساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب ديني وأخلاقي أساسه دعوة الناس إلى التمسك بالخير، والحث على الفضائل، ونصحهم بالابتعاد عن الشر، وعن كل عملٍ مرتبطٍ بالرذائل أو يضر بالمجتمع. قال تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 79).
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز العديد من الأمثلة عن الأمم السابقة التي انحرفت عن النهج القويم، وخالفت أمر ربها، ولم يتناصحوا فيما بينهم، وتركوا منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت عاقبتهم أن حلَّ بهم العقاب الإلهي، فمنهم من أُرسل عليهم ريحٌ صرصرٌ عاتية، ومنهم من اقتلعهم الله من الأرض فجعل عاليها سافلها، ومنهم من أغرقهم فلم يُبقِ منهم باقية، كأقوام عادٍ وثمود وغيرهم.
ومع ذلك، فإنَّ أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتركه الشارع الحكيم دون ضوابط تضبطه وقواعد تُقنِّنه؛ إذ لو تُرك دون قيودٍ لانقلب إلى فوضى قد تُفرّق المجتمعات بدل أن تُصلحها. ومن أبرز تلك الضوابط أن تكون النصيحة في السر لا في العلن إذا كان متلقيها فردًا، فالنصيحة في العلن قد تنقلب إلى نوعٍ من التشهير، وحينها قد تُحدث القطيعة بدل الوصل، أو العناد بدل القبول، والتمادي في الخطأ بدل الإصلاح.
كما أن من أهم ضوابط النصح اختيار الوقت المناسب له، وأن يُقدَّم بأسلوبٍ رفيقٍ ولغةٍ لينةٍ، فالرفق مفتاح القلوب، واللين زينة الدعوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه". وهذا التوجيه النبوي يجعلنا ندرك أن الكلمة اللطيفة والأسلوب الهادئ أكثر تأثيرًا في النفوس من العتاب الحاد أو النقد الجارح.
أما إذا كان الأمر يخص المجتمع بعمومه، فإنَّ الإسلام قد جعل من المساجد منابر للتناصح الجماعي، وخاصة عبر خطبة الجمعة التي تجمع الناس وتوحد قلوبهم على الخير، فهي من أفضل الأوقات وأقدس الأماكن للنصح والتوجيه والإرشاد، إذ يخاطب فيها الخطيب الناس جميعًا بخطابٍ عامٍ يهدف إلى الإصلاح والتقويم، فيتأثر السامعون لبركة الزمان والمكان، فتقع الكلمات في القلوب موقع البلسم والضياء.
ومع ذلك، فإنَّ البحث عن الفضيلة والحرص على نقاء المجتمع وصلاحه لا يعني أن نحمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به، قال تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 233).
علينا أن ندرك أننا لا نملك العصا السحرية التي تصلح كل الخلل دفعةً واحدة، ومهما بذلنا من جهد، فإنَّ هناك من سيبقى على حاله، لأنَّ الصراع بين الخير والشر سيستمر إلى قيام الساعة، وهذه سنة الحياة التي قدرها الله بقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 2).
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الجدال والمراء من أخطر أساليب النصح وأكثرها ضررًا، إذ يُضيع الوقت ويزرع الأحقاد بين الناس، لاسيما في هذا الزمن الذي يدّعي فيه كثيرون امتلاك الحقيقة المطلقة والمعرفة التامة، فيعتدّ كلٌّ برأيه ويستغني عن سماع الآخرين. لذا، فالحكمة تقتضي أن يكون التناصح بالحسنى والهدوء والتقدير، لا بالمماراة أو التوبيخ أو الاتهام.
وفي الختام.. إنَّ حديثنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني التحكم في الحريات العامة أو تقييد المجتمع عن ممارسة نشاطه الطبيعي، وإنما المقصود هو ألا نترك التناصح فيما بيننا كأفرادٍ وأسرٍ ومجتمعات، حتى نحافظ على نقاء بيئتنا الأخلاقية، ونحمي مجتمعنا شامخًا بقيمه ومبادئه. فبقدر ما نحافظ على قيمة التناصح، نحافظ على إنسانيتنا وكرامتنا، لأنَّ المجتمع الذي يغيب عنه النصح يغيب عنه النور، والمجتمع الذي يتناصح أهله يبقى حيًّا نابضًا بالعطاء والفضيلة.