الصمت الملكي

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

الإنسان بطبعه محاور، يسعى إلى المعرفة باستمرار، شغوف بكل ما هو جديد، لذلك نجده دائم البحث والتنقيب. وإحدى وسائله السريعة والنافعة هي طرح الأسئلة ومحاولة الحصول على الإجابة بشكل مُباشر.

ومنذ المرحلة الأولى للإنسان - أي مرحلة النطق - وهي المرحلة التي يبدأ فيها بتلمّس ومحاولة معرفة أسماء الأشياء، نجده كثيرًا ما يطرح الأسئلة على والديه مستعينًا بهما على معرفة أسماء الأشياء. وهي مرحلة يستمتع بها الأبوان أيضًا، وهما يتابعان أبناءهما يقلدون ذكر الأسماء بطريقة مُمتعة ومسليّة.

وهنا تأتي أهمية اللغة في نقل المعرفة والتجارب، فهي الوسيلة الأهم لدى الإنسان لتحقيق ذلك. وهو قد فُطر على تعلمها بكل يسر وسهولة، فتتكوّن لديه حصيلة هائلة من المعاني والأسماء والتعابير اللفظية تبقى خالدة في الذاكرة على شكل طبقات متراكمة تزداد مع مرور الزمن وتطور المعرفة. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.

ثم تأتي على الإنسان المرحلة المتقدمة الخاصة بالتوثيق، وهي مرحلة في غاية الأهمية، ألا وهي مرحلة الكتابة. وهي مهمة جدًّا لأنها وسيلة مشاركة المعرفة ونقل الخبرات إلى الآخرين. فكل فكرة وثّقها الإنسان استفاد منها آخر في مكان آخر، وبطبيعة الحال أضاف إليها أفكارًا أخرى، وبذلك تطورت الحضارات وتسابقت الأمم في إنتاج المعارف والاختراعات، وتدافعت فيما بينها لإبراز أفضل ما أنتجته في خدمة البشرية، باستثناء ذلك الإنتاج المدمّر الذي استخدمه الإنسان للإضرار بأخيه الإنسان.

وهنا ينبغي أن نتوقف عند ذلك السر الجميل الذي يجعل من حياتنا مركز اهتمام، ويحوّل أفكارنا إلى سراج وهاج، ذلك السر هو القراءة. فهي المصباح الذي نرى به المستقبل، والطريق الذي نهتدي به في مسيرتنا. القراءة سياحة معرفية في عقول الآخرين، نتواصل معهم في كل الأوقات، ونعيش معهم في كل الأزمنة، من خلال ما رسموه من حروف ومعانٍ، وما أبدعته عقولهم من لوحات معرفية وجمالية. فكل ذلك التراث الذي أنتجه الإنسان عبر القرون الماضية لا نزال نطالعه في حاضرنا وكأنَّه منتج حديث نستفيد منه في حياتنا الآن.

ويحلو لي أن أطلق على عملية القراءة "الصمت الملكي". فذلك الصمت الذي يبدو علينا ونحن نمارس القراءة إنما هو قمّة المتعة، حين نبحر بكل جوارحنا وأحاسيسنا في مكنونات المعاني والأفكار من خلال الكتب التي نطالعها. فلا يضاهي متعة القراءة شيء آخر لمن عرف قيمتها الحقيقية.

القراءة تمكنك من معرفة كل سائرة في الأرض، وكل سابحة في السماء، وكل شاردة في الفكر. فالإنسان لم يترك أمرًا إلا وكتب عنه ووثّقه بعد أن خبره وعرفه، وترك الآخرين يشاركوه تلك المعرفة.

إن المتبصر الحاذق يُدرك تمام الإدراك أنَّ تقدم الحضارات في هذا الزمن إنما كان نتيجة القراءة. فقد استفاد الغرب من الإنتاج المعرفي الذي أوجده مفكروهم وعلماؤهم، الذين درسوا واقعهم بالتحليل الدقيق، ووقفوا على مواطن الخلل، وأوجدوا الحلول للخروج من انغلاقهم، واستطاعوا أن ينتقلوا بمجتمعاتهم إلى مراحل متقدمة.

بل إنهم جنّدوا أنفسهم لدراسة المجتمعات العربية والإسلامية وتحليلها، وكان ذلك بهدف تكوين صورة واضحة عنها ليسهل احتلالها والسيطرة عليها واستغلال ثرواتها. وليتهم قدموا ما يفيد تلك المجتمعات لتنهض وتتطور.

أما نحن - وللأسف - فلم نستوعب الدرس، وإن استوعبناه لم نبادر للتغيير وإيجاد الحلول التي تجعل مجتمعاتنا تنهض من سباتها. وحتى اليوم لا نزال لا نعي أهمية قراءة المجتمعات العربية والإسلامية بالطرق العلمية وبمناهج متطورة، نعيد بواسطتها تقييم ما ينقصنا من أساليب حياة متقدمة، ووضع الحلول المناسبة لتحقيق ذلك.

وعندما نتحدث عن دراسة المجتمعات، فإننا نتحدث عن دراستها في وضعها الزمني الحاضر بما هي عليه من واقع، فنمتلك بذلك حلولًا تناسب الحياة في العصر الحديث. لكننا - وللأسف - كثيرًا ما ننتج رصيدًا كتابيًا متعلقًا بالماضي أكثر من الحاضر، ولذلك فإن ثقافتنا تميل إلى اجترار الماضي في كل قضايانا، وكأننا رهائن قيد التاريخ، منشغلون بالانتصار لوجهات نظر قديمة لا تسمن ولا تغني من جوع. وهذا الانشغال يجعلنا نتباعد ونسعى إلى إلغاء الآخر بدل التلاقي معه.

ومن الملاحظ أن ثقافتنا يغلب عليها رفع الصوت، بينما تغيب الثقافة المبنية على القراءة، أو كما أسميناها "الصمت الملكي". فما من سبيل للنهوض بمجتمعاتنا إلا بالعودة إلى القراءة المثمرة، وقبلها الكتابة التحليلية التي تكشف عيوبنا وتضع البدائل لبناء منهج حياة يرقى بنا إلى الأفضل.

ومن هنا، فإنَّ قيمة القراءة لا تظهر فقط في بناء الفرد، بل في صناعة الأمم. والتاريخ زاخر بأمثلة على أمم نهضت بالقراءة. فاليابان مثلًا، بعد الحرب العالمية الثانية، لم تملك ثروات طبيعية كثيرة، لكنها امتلكت عقلًا قارئًا ومنفتحًا على العلوم والتجارب الإنسانية. وبالقراءة والتعليم أعادت بناء نفسها حتى أصبحت قوة اقتصادية عظمى. وفي المقابل، كل أمة أهملت القراءة بقيت أسيرة التخلف والتبعية.

كما أن القراءة ليست حكرًا على النخب، بل هي ضرورة يومية للإنسان العادي. فالموظف الذي يقرأ باستمرار يكتسب مهارات جديدة تجعله يتقدم في عمله، والطالب الذي يقرأ خارج مقرره الدراسي يفتح لنفسه آفاقًا أوسع للفهم والإبداع، وحتى رب الأسرة حين يقرأ يتعلم كيف يُدير حياته بشكل أفضل. إنها أشبه بزادٍ لا غنى عنه في رحلة الحياة.

علينا أن نعي واقعنا بالشكل المرضي ونتقبل نقده وإن كان مؤلمًا، فالتشخيص أول العلاج. وعلينا أن نترك لمفكرينا حرية الكتابة والتعبير وإعطاء الحلول، فهم المرآة التي نشاهد بها انعكاس واقعنا.

والشيء بالشيء يُذكر، أن الصمت ذاته له انعكاسات بالغة على حياتنا. علينا أن نتعلم معاني الصمت؛ فالصمت في وقت الانتصارات ثقة، وفي وقت الغضب قوة، وفي وقت العمل إبداع، وفي وقت الاستماع للسخرية رفعة، وفي وقت الإصغاء للنصيحة قمة الأدب، وفي وقت الحزن إيمان بأنَّ الملتجأ لله وحده وإليه يرجع الأمر كله.

وهكذا يظل "الصمت الملكي" - أي القراءة - أسمى أشكال السمو الروحي والفكري، لأنه صمت يصنع في داخلك ضجيجًا من الأفكار، ويزرع في روحك نورًا من المعارف، ويهديك إلى دروب لم تكن لتراها لولا هذا الصمت العميق.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة