عباس المسكري
كأنّ التاريخ في فلسطين لا يرحل؛ بل يعيد ارتداء أقنعته، مرةً بزيّ الانتداب، ومرةً بربطة عنق الدبلوماسية؛ فمنذ أكثر من 75 عامًا، حين وضعت بريطانيا حجر الأساس للمأساة الفلسطينية عبر الانتداب ومن ثمّ دعم قيام الكيان الصهيوني، ظلّ الحضور البريطاني حاضرًا في تفاصيل النكبات المتلاحقة، واليوم في ظلّ العدوان المستمر على غزة، تعود بريطانيا إلى الواجهة، لا كقوة عسكرية هذه المرّة؛ بل كعرّاب سياسي يحاول إعادة إنتاج الوصاية القديمة بأدوات جديدة.
تسريبات وتقارير متداولة تتحدّث عن خطة غربية لإدارة ما بعد الحرب في غزة، تقودها شخصيات دولية سبق لها أن أدَّت أدوارًا محورية في الشرق الأوسط، وفي مقدّمة هذه الأسماء يطلّ توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي ارتبط اسمه بحروب المنطقة، وبمشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وتتقاطع هذه التسريبات مع ما أُعلن سابقًا ضمن الخطة الشاملة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي لم تكن مجرد رؤية للسلام، بل خارطة لإعادة تشكيل غزة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بما يخدم مصالح الاحتلال ويُضعف جذور المقاومة.
بلير، الوجه الذي لم يغادر خرائط الشرق، ظلّ يمثّل نقطة التقاء البوصلة الأمريكية بالبصمة البريطانية، حيث تُرسم الحلول لا لتُحلّ بل لتُحكم، وطرح اسمه لتولّي دور إداري أو سياسي في غزة ليس تفصيلًا عابرًا، بلير كان، وما زال أحد الوجوه البارزة التي مثّلت التداخل الأمريكي البريطاني في رسم خرائط المنطقة، وغالبًا ما كان حضوره يعني فرض حلول فوقية تُرضي الغرب وتخنق تطلعات الشعوب وعودة بلير إلى غزة اليوم ليست سوى امتداد لذلك الانتداب البريطاني الذي لم يغادر المنطقة يومًا؛ بل تبدّل من شكل عسكري إلى نفوذ سياسي، واقتصادي وأمني.
فكم هي موجعةٌ تلك المفارقة، حين يجد الفلسطيني نفسه أمام نسخة جديدة من التاريخ، يدفع فيها ثمنًا قديمًا بأدوات حديثة، وكأنّ الانتداب يتجدد، ليس عبر الجنود الحمر هذه المرّة؛ بل عبر الوسطاء والدبلوماسيين الذين ينسجون خيوط الحلول المؤقتة التي سرعان ما تتحوّل إلى وقائع دائمة.
من وعد بلفور إلى خيوط الوصاية، أثبتت التجربة أنّ بريطانيا لا تغيّر جلدها؛ بل تتقن فنّ التسلل البارد إلى قلب النكبة؛ فمنذ وعد بلفور وحتى اللحظة، ظلّت لندن تمارس برودًا استعماريًا يسهّل مرور المشاريع الغربية ويُجهض كل محاولة عربية أو فلسطينية للتحرر، إنّها نكبة مستمرة بوجهٍ بارد يتقن فن الحسابات ويغض الطرف عن الدماء.
تكرّرت اللقاءات، علنًا وسرًا حتى باتت المصافحة مع القاتل تُسوّق كحكمة، والتطبيع يُقدَّم كواقعية، بينما الحقيقة تُدفن تحت ركام المصالح؛ فالتطبيع الذي شهدته المنطقة خلال السنوات الماضية لم يكن مجرد صدفة تاريخية، بل كان بوابة لإعادة دمج إسرائيل في قلب المشهد، وتهيئة الأرضية لمرحلة جديدة من التعامل معها كشريك لا كعدو، واللقاءات العلنية والسرية بين بعض السياسيين العرب ونظرائهم الإسرائيليين صارت مشهدًا متكرّرًا، تبرَّر أحيانًا بمصالح اقتصادية أو اعتبارات أمنية، لكنها في النهاية تضعف الموقف الفلسطيني وتفتح الباب لخططٍ تستهدف غزة وفصائلها المقاومة.
يتعاظم خطاب شيطنة المقاومة، كأنّ الرواية تُعاد صياغتها لتُدين الضحية وتُبرِّئ الجلاد؛ حيث تُقدَّم حماس والفصائل المسلحة في الإعلام وبعض المنابر السياسية كعقبة أمام السلام أو كسبب في المعاناة، بينما يُتجاهل جوهر المشكلة المتمثّل في الاحتلال ذاته، وهذه السياسة ليست بريئة، فهي جزء من معركة سرديات تسعى لتجريد المقاومة من شرعيتها وإعادة تصوير غزة ككيان يحتاج لوصاية خارجية بدل أن يُمنح حقه الطبيعي في تقرير المصير.
المطلوب اليوم ليس موقفًا عربيًا فحسب، بل يقظة ضمير تُعيد لفلسطين مكانتها في القلب، لا في الهامش، وتكسر قيد الوصاية قبل أن يُكتب فصلٌ جديد من النكبة، فالمعركة ليست فقط على حدود غزة، بل على الوعي العربي بأسره، فمن يطبّع ويصافح القاتل، ومن يشيطن المقاومة ويجعلها عبئًا بدل أن يراها درعًا، إنما يشارك في كتابة فصل جديد من النكبة، والمطلوب اليوم موقف عربي صريح، لا مجاملة فيه ولا تبرير، يضع حدًا لهذه الوصاية المتجددة، ويعيد الاعتبار لقضية فلسطين كقضية الأمة كلها.