أمل بنت سيف الحميدية **
يشهد التعليم في القرن الحادي والعشرين تحولات جذرية بفعل الثورة الرقمية التي غيّرت ملامح المدرسة والمُعلِّم والطالب على حد سواء. لم يعد دور المُعلِّم محصورًا في نقل المعرفة؛ بل أصبح مطالبًا بامتلاك كفايات رقمية متقدمة تؤهله لاستخدام التقنية بفعالية، وتساعده على تهيئة بيئة تعليمية تفاعلية وآمنة.
ويكشف تقرير السياسات الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2025) أنّ 88% من مديري المدارس باتوا واثقين من امتلاك مُعلِّميهم للمهارات الرقمية الأساسية، بزيادة لافتة عن السنوات السابقة. ومع ذلك، يظل التحدي قائمًا في كيفية توظيف هذه الأدوات بطرق تربوية مدروسة تتجنب التشتت الرقمي وتواجه قضايا الأمن السيبراني وحماية الخصوصية.
وعلى المستوى العالمي، يشير التقرير إلى أنّ 15 من أصل 37 دولة اشترطت خططًا مدرسية متخصصة في التعليم الرقمي، فيما وضعت سبع دول أهدافًا زمنية لتطبيق التقنية في الصفوف. كما إنَّ 21 دولة فقط دمجت الكفايات الرقمية في معايير مهنة التعليم، بينما نصف الأنظمة التعليمية لا تزال لا تُدرجها ضمن أدوات التقييم والترقية، ما يحِد من دافعية المُعلِّمين ويقلل من فرص الابتكار. ويبرز التقرير تحديات عملية أخرى، إذ لا يزال ثلث الدول يكلّف المُعلِّمين أنفسهم بمهمة صيانة الأجهزة وإدارة الموارد الرقمية. ويضاف إلى ذلك عامل الوقت؛ حيث أظهر استطلاع "PISA 2022" الذي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنّ 41% من مديري المدارس أقرُّوا بعدم وجود وقت كافٍ لدى مُعلِّميهم للتحضير واستخدام التكنولوجيا في الحصص. هذه التحديات الدولية تعكس الحاجة إلى حلول عملية، وقد وجدت بعض الدول مخارج ذكية مثل فنلندا وسنغافورة؛ حيث جرى تخصيص ساعات عمل رسمية للتطوير المهني وإنشاء فرق متخصصة للدعم الفني والتقني، بما يسهم في رفع الكفاءة وتخفيف الضغط عن كاهل المُعلِّم.
أما في سلطنة عُمان، فإنَّ "الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040" تضع المُعلِّم في قلب عملية التحول الرقمي؛ حيث تؤكد على بناء تعليم عالِ الجودة مدمج بالتقانة، مُتعدِّد المسارات، يعزز الابتكار وريادة الأعمال، ويبني المهارات. كما يشير الملخص التنفيذي للاستراتيجية إلى ضرورة تعزيز جودة نظام التعليم وكفاءة الأداء وتنمية المهارات وتعزيز القدرة على الإبداع والابتكار وروح الريادة. وتنسجم هذه التوجهات مع رؤية "عُمان 2040" التي وضعت التعليم والبحث العلمي والقدرات الوطنية في صميم أولوياتها.
غير أنّ الطريق نحو تجسيد هذه الطموحات على أرض الواقع يواجه عقبات؛ إذ إنّ المُعلِّم الرقمي في العالم، وفي سلطنة عُمان أيضًا، يواجه تحديات كعبء الصيانة ونقص التدريب والوقت. هنا تظهر أهمية ترجمة الرؤية إلى سياسات عملية، مثل وضع إطار وطني للكفايات الرقمية للمُعلِّم يحدد المهارات التقنية ومهارات التدريس اللازمة، وتأسيس وحدات دعم فني في المدارس، وتنظيم عبء العمل عبر تخصيص وقت رسمي للتدريب على الأدوات الرقمية، إلى جانب تشجيع التجريب الآمن للتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز، ضمن سياسات تحمي البيانات وتضمن الاستخدام الأخلاقي.
وقد بدأت سلطنة عُمان بالفعل في خطوات عملية تعكس هذا التوجه، مثل إطلاق المنصة التعليمية "منظرة" خلال جائحة "كوفيد-19" كبيئة افتراضية تدعم التعلم عن بُعد، وتبني مبادرات لتدريب المُعلِّمين على استخدام الأدوات الرقمية التفاعلية. كما أطلقت وزارة التربية والتعليم برامج دورية للتطوير المهني عبر التدريب الإلكتروني والورش التطبيقية، وهي شواهد محلية تثبت أن التحول الرقمي ليس شعارًا؛ بل مسارًا متدرجًا يتبلور على أرض الواقع.
إنَّ مستقبل التعليم في سلطنة عُمان يتوقف إلى حدٍ كبيرٍ على قدرة السياسات التعليمية على جعل المُعلِّم قائدًا رقميًا يمتلك المرونة لمواكبة التطورات، ويجد الدعم المؤسسي الذي يُحرِّره من الأعباء التقنية والإدارية؛ فالتحوُّل الرقمي ليس غاية في ذاته؛ بل وسيلة لإطلاق طاقات المُعلِّم والطالب معًا. وإذا كان العالم اليوم يتحدث عن مدارس ذكية وذكاء اصطناعي في الصفوف، فإن رؤية "عُمان 2040" تمنح بلادنا فرصة لأن تكون رائدة في هذا المجال، شريطة أن توضع السياسات الرقمية للمُعلِّم في قلب المشروع التعليمي. وبذلك يصبح الاستثمار في المُعلِّم الرقمي استثمارًا في مستقبل الوطن بأسره، وضمانة لإعداد جيل قادر على المنافسة والإبداع في عالم سريع التحول.
** باحثة تربوية