مشاهد من ازدواجية المعايير في خطابات الأمم المتحدة

 

 

علي بن حبيب اللواتي

 

 

في الوقت الذي تعالت فيه أصوات العديد من الدول من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة للمطالبة بوقف عدوان الاحتلال على قطاع غزة المحاصر منذ 19 سنة تقريبًا، والمطالبة فقط بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية، لكن في نفس الوقت غابت مطالب جوهرية وأساسـية يُفترض أن تكون على رأس أي موقف عادل اتجاه ما يجري في الأراضي المحتلة الفلسطينية.
فيوجد حاليًا أكثر من 10 آلاف معتقل فلسطيني حسب ما يُنشر إعلاميًا بأنهم يقبعون في سجون الاحتلال ومعسكراته المنتشرة في أنحاء كل فلسطين، بينهم أطفال ونساء وكبار في السن ومعاقون ومرضى، إلى جانب الآلاف من سكان غزة الذين اختطفهم جيش الاحتلال خلال اجتياحاته المتكررة للقطاع.
وكذلك لم تُطالب هذه الدول بتحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن الدمار الهائل الذي ألحقه بقطاع غزة نتيجة قصفه المتكرر والمتعمد للمنازل والمستشفيات والمدارس والبنية التحتية، ولا دفع التعويضات لأهالي غزة في النفوس والأملاك والأرزاق.
ومع ذلك، لم نسمع في خطابات معظم هؤلاء القادة أي دعوات صريحة واضحة للإفراج الفوري عن هؤلاء المعتقلين الفلسطينيين مثلما طالبوا بالإفراج الفوري عن أسرى الاحتلال الذين تم أسرهم من قاعدة عسكرية، وليس من البيوت والأسواق والمستشفيات والمساجد والشوارع مثلما تم اعتقال أفراد الشعب الفلسطيني، وكأن إنسانيتهم لا تستحق الذكر، وكأن معاناتهم هامشية، وأن إنسانية هؤلاء القادة انحصرت فقط بالشعب المحتل؛ بل على العكس من ذلك، تم تحويل الأنظار إلى ضرورة "دعم إعادة إعمار غزة"، دون التوضيح الصريح بأن من دمّرها هو من يجب عليه أن يدفع ثمن إعادة بنائها، سواء من خلال التمويل المباشر أو عبر قرارات أممية ملزمة.
بذلك، ظهرت خطابات هذه الدول فتُساوي بين الضحية والجلاد، وتطالب العالم أن يُعيد إعمار ما دمّره المعتدي دون تحميله أي مسؤولية أخلاقية أو مادية أو قانونية.
مقابل تلك الخُطب الرنّانة التي لم تُطالب الاحتلال بالإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين والتي ركّزت فقط على فك أسر الجنود المحتجزين لدى فصائل المقاومة، برز في الجمعية العامة للأمم المتحدة ثلاثة أصوات ذات سقف أعلى كسرت هذا النمط التقليدي، وطرحت مواقف حازمة لصالح القضية الفلسطينية.
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو دعا بشكل مباشر إلى دعم كفاح الشعب الفلسطيني، واعتبر أن ما يجري في غزة ليس صراعًا متكافئًا، بل هي إبادة جماعية بكامل فصولها وأركانها؛ فخاطب العالم قائلًا: "إذا كنا نؤمن بحقوق الإنسان، فيجب أن نقف إلى جانب الفلسطينيين"، مشيرًا إلى ضرورة تحرك المجتمع الدولي بشكل فعّال من أجل إنهاء الاحتلال.
أما الرئيس البوليفي لويس آرس فقد كان أكثر جرأة في كلمته، حين دعا إلى إنهاء الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، مؤكدًا أن الشعب الفلسطيني يملك كامل الحق حسب ما قررته قوانين ومبادئ الأمم المتحدة نفسها، بأنه من حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تستخدم كافة الوسائل لتحرير أراضيها ونيل حريتها واستقلالها وممارسة سيادتها الكاملة على أرضها، وأضاف أن الوقت قد حان لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها التاريخية وتتحرك بشكل جماعي لتنفيذ قراراتها السابقة بشأن فلسطين المحتلة.
مما برز أيضًا خطاب الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الذي، رغم لهجته الدبلوماسية الواضحة، فقد دعا إلى تحرّك دولي لوضع حد للاعتداءات على قطاع غزة، مشيرًا إلى ضرورة أن يشعر الفلسطينيون بالأمن والأمان والكرامة، كما دعا إلى اتخاذ إجراءات دولية لحماية المدنيين.
وقد فسّر البعض كلمته بأنها تحمل دعوة مبطّنة لتشكيل تحالف دولي لردع الاحتلال.
هذه المواقف الفردية شكّلت استثناءً واضحًا عن سائر بقية الكلمات التي أُلقيت من فوق المنبر الأممي، وأظهرت أن هناك أصواتًا رسمية في العالم ترفض سيناريوهات الاحتلال، وتجرأت على تسمية الاحتلال باسمه، وتطالب بتحركات حقيقية لا تكتفي بالإدانات الشكلية.
وفي مشهد آخر، اجتمع رئيس الولايات المتحدة بمجموعة من قيادات العالم الإسلامي والعربي وعرض عليهم خطة إنهاء العدوان على قطاع غزة مكوّنة من 21 بندًا، ومن تلك البنود، أن تتم إدارة قطاع غزة من قبل لجنة دولية مكلفة لإدارته مباشرة لمدة خمس سنوات، وتتكفل بعض الدول العربية والأجنبية بتمويلها.
ليظهر يوم الجمعة نتنياهو مُعتليًا منصة الأمم المتحدة ليلقي خطابه، فبدأت أغلب الدول بمغادرة القاعة مقاطعة خطاب دولة الاحتلال؛ فأدلى بخطاب تحدّى بشكل واضح إرادة العالم ليُعلن لهم بأنه لن تكون ولن تُقام دولة فلسطينية، وأنه مستمر في تنفيذ خططه لاحتلال كامل قطاع غزة لتحرير أسرَاه، متخذًا من تكرار استخدام الفيتو الأمريكي غطاء لتوجهاته التي تخالف رغبة دول العالم الـ150 بوقف العدوان على غزة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وكأنه يخاطب العالم قائلًا: يا أيتها الدول المطالِبة بدولة فلسطينية، أنا الذي أقرر المستقبل بأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية!
وتستمر بقية خطابات دول العالم دون قدرتها على استخلاص قرار من مجلس الأمن يُلزم الاحتلال ويوقفه عند حده... مقابل ذلك ما زال شعب غزة الصابر يعاني ثلاثي الموت (المجاعة المستمرة، والإبادة اليومية، والأمراض الفتاكة من دون دواء ولا علاج).
ولنا في مشاهد أخرى نستعرضها في الأيام القادمة.

الأكثر قراءة