د. عبدالله باحجاج
في ضوء أكبر 10 قضايا وظواهر سلبية في البلاد، وعلى رأسها المخدرات والقات، وفي ضوء انكشاف التكلفة العالية والمبالغة في مناسبات الأعراس والعزاء، وما يُصاحبها من ظواهر سلبية في محافظة ظفار -مثلًا- ما أنزل الله بها من سلطان؛ أي ما أعطاها الله من حجة أو برهان أو دليل، وفي ضوء التحديات الجيوسياسية الجديدة والقديمة وآفاقها، تحتاج مرحلتُنا الوطنية الراهنة إلى وجود نُخب مُستقلة داخل كل مجتمع محلي، تحمل هَمَّ مجتمعها، وفي حالات كثيرة قضايا وطنية جامعة؛ فهناك أدوار تكون حصرية عليها، ودونها ستحدث الاختلالات وستتغلغل في بنيات المجتمع والدولة، وهذا من الاستشرافات الجديدة لتعزيز قوة المجتمع (المجتمعات) والدولة بصفة عامة، بعد التغيير الدراماتيكي في مفهوم قوة الدول، عقب الأحداث الأخيرة في المنطقة، وآفاق الحروب الجديدة المقبلة.
لذلك، ينبغي أن يكون داخل كل مجتمع محلي نُخب مستقلة تسعى إلى نقله من حالة الجمود في بعض عاداته وتقاليده، إلى آفاق أوسع من الوعي والتطور والتكييف مع أوضاعه المالية الجديدة، وتسعى إلى محاربة الظواهر السلبية التي تظهر فوق السطح الاجتماعي، وتكون كذلك الوسيط بين الحكومة والمجتمع أو الرأي العام، وتحمل هاجس صناعة الوعي بالإكراهات الخارجية التي قد تستهدف وطننا، والتصدي لها، ونراها من الآن بالعين المُجرَّدة؛ أي باستخدام القدرة البصرية الطبيعية للعين البشرية من دون الاستعانة بوسائل بصرية مزودة بقدرات تكبير مثلًا.
ولا يمكن التعويل بصورة مُطلقة على المؤسسات الحكومية في كل شيء؛ بمعنى آخر، هناك أدوار للقطاعات الثلاثة: الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص، ينبغي على كل قطاع القيام بها وفي الوقت المناسب قبل أن تتراكم، ومن ثم تحدث الاختلالات، وإذا وقعت ستكون بنيوية، وهنا مكمن الخطورة. وكذلك التصدي للخارج- جماعات وأنظمة- عندما تُستهدف بلادنا لإظهار قوة وحدتنا وتماسك داخلنا وإبراز حالة الإجماع على ثوابتنا الفوقية والتحتية. وقد كانت النهضة المُتجدِّدة واعيةً لهذا المسار منذ انطلاقتها في يناير 2020، عندما رفع مُجدِّدُها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مشروعه الوطني المُتمثِّل في الشراكة المجتمعية، موضحًا جلالته أن الدولة لا تستطيع الإنجاز دون تفاعل المجتمع معها، ودعا إلى فتح قنوات أمام الشباب والقطاع الأهلي (المجتمع المدني) ليكونوا شركاء لا مُتلقِّين فقط، كما كانوا من قبل، والفارق بحجم السماء والأرض بين مفردتي "شركاء" و"مُتلقِّين".
هنا التساؤل.. إلى أي مدى وصلت رسالة الشراكة لنُخبنا الوطنية؟ الحقيقة أنه ما عدا القِلَّة، فإن الأغلبية لم تستوعب مفهوم الشراكة واستحقاقاتها الزمنية والسياسية، ولم تستقبلها من مُجدِّد نهضتنا كحقٍ من الحقوق السياسية تُحاجِج بها في سبيل ممارسة أدوارها، وهناك كذلك نخب حكومية لم يرتفع وعيها إلى مستوى وعي النهضة المتجددة، بحيث لا تزال أسيرة ثقافة ما قبل النهضة المتجددة - ظرفًا ومسوغًا- فالمسير التنفيذي للنهضة المتجددة يحتاج في بعض مفاصله إلى مُوجِّهات ومُحدِّدات لضمان تنفيذ أجنداتها، مثل ما تقدم عليه وزارة الداخلية التي ما فتئت أن تُصدر بيانات توجيهية للمحافظين بما ينبغي القيام به، وآخرها، كان حث معالي السيد وزير الداخلية المحافظين على الاستماع إلى المواطنين ومقترحاتهم للنهوض بمستوى المحافظات، وهذا الحث نُفسِّره بأنه يدخل في جوهر الشراكة، وجعل المواطنين مشاركين لا مُتلقِّين.
وفي الجانب الآخر، فإن أغلبية النُخب- وبالذات المُثقَّفة- لا تزال في أبراجها العاجية والأحكام المُسبقة والسلبية والاتكالية، وفعّاليتها لم تخرج عن مساهماتها في وسائل التواصل الاجتماعي، والبعض عبر مقالات صحفية! رغم أن الحتمية تقود النخب الواعية إلى قيادة التحولات الميدانية لصالح المجتمع والدولة، تماهيًا مع دعوة عاهل البلاد لجعل المجتمع شريكًا وليس مُتلقِّيًا فقط، وهذا لا ينفي وجود نخب مستقلة تحرَّرت من قيود السلبية والاتكالية والمثالية، ومن عقلية الانتفاع الشخصي، ونزلت إلى الميدان التطوعي، وتمكَّنت من تحقيق نجاحات متصاعدة، كمبادرتي "يَسِّر واجب العزاء"، و"أفراح بلا إسراف"، والتي أطلقها الناشط الاجتماعي الدكتور خالد آل إبراهيم، ويلتقي معه الكثيرون، ويتمكنون من التغلغل إلى الذهنيات الاجتماعية المُعقَّدة والصعبة. وقد حقَّقت المبادرة الأولى نجاحات اجتماعية فوق المتوقع، والثانية، تنطلق منذ شهر تقريبًا، وتُحدِث الآن داخل المجتمع الظفاري؛ بل على مستوى البلاد، نقاشات اجتماعية/ قبلية إيجابية، للحد من الظواهر والعادات والتقاليد السلبية، وتلك النقاشات ما كانت لتحدث لولا مبادرات الدكتور خالد وتجاوب الكثير من النخب معها.
ويصاحب هذه النقاشات نقدًا صريحًا بسقوفه العُليا، تنطلق من مسارات عقلانية ودينية لا يُختلف عليها أبدًا؛ فمثلًا التكلفة العالية والمبالغة في الأعراس التي تجعل من العُرس صعب المنال إن لم يكن مستحيلًا لجيل كامل من الشباب الذين يحصلون على مرتبات متدنية، كما تنصب حدة النقاشات على السلوكيات السلبية التي استجدت على الأعراس والتي تُحوِّل مجتمعنا المحلي عن طابعه المحافظ بالنسبة المئوية الكاملة؛ أي تُفكِّك نسيجه الاجتماعي والقيمي والأخلاقي. وهذا الدور إذا لم تقم به النُخب المستقلة الواعية، فمن ينبغي عليه القيام به؟ لأن هذا الدور من الشؤون المجتمعية الخالصة، والتصدي له ينبغي أن يكون من نخب المجتمع نفسه، وكل من استمع للحوار (وندعو للاستماع إليه) الذي أجرته قناة البيداء الرقمية مع الدكتور خالد والناشطة آمال إبراهيم رئيسة اللجنة الاجتماعية بالمجلس البلدي بظفار، والناشطة الاجتماعية والتربوية منى العبد يسلم بيت عبدالله، سيدرك أهمية دور النخب في كل مجتمع محلي الآن، فظهر لنا في هذا الحوار أن المجتمع بدأ ينتقد ذاته، ويُصوِّب مساراته بعيدًا عن تدخل مباشر من الحكومة، وحتى بعيدًا عن النخب الدينية إلّا على استحياء. هذا النقد الإيجابي، بكل ما فيه من شفافية وصراحة، نعتبره أول مفاتيح الإصلاح الاجتماعي في مناسبات مثل الأعراس والعزاء، كمقدمة تقودنا إلى التفكير في إصلاحات متتالية؛ حفاظًا على المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده الأصيلة.
وهناك أدوار أخرى للنُخب نفتخر بها، مثل النُخب التي أسست المبادرة المجتمعية للحد من القضايا والظواهر السلبية "القات والمخدرات أولًا"؛ فاستجابتهم للدعوة السامية من لدن عاهل البلاد- حفظه الله- بالشراكة، دفع بهم إلى إجراء حوار مع قمة اللامركزية في ظفار، وهم ينتظرون شرعيتها التي طال انتظارها. وكذلك هناك دور للنُخب التي كان لها السبق في خوض غمار الشراكة بكل وعيٍ ومسؤولية مثل مؤسسي جمعية بهجة للأيتام والأيادي البيضاء والفرق الخيرية والتطوعية في كل ولاية. وما تقوم به هذه النُخب أكبر الاستدلالات على دور النخب الواعية في النهضة المتجددة؛ إذ إن دورها يتمثل في الحفاظ على التماسك الاجتماعي وتقويته، وتعزيز الوحدة الوطنية، والدفاع عن الثوابت والهوية والثقافات العُمانية الأصيلة، وخشيتنا على فعالية هذه النخب من "الأنا الفردية والجماعية"، ومن عدم تقبُّل خيار الأغلبية أو التوافق لحسم وجهات النظر وتعدد الآراء.. غير أننا ينبغي التسليم بأن دور النُخب قد أصبح من حتميات نهضتنا المتجددة؛ لأنه من كبرى مشاريعها الوطنية لتعزيز قوتنا الناعمة، وهذا ما ينبغي أن يصل إلى وعي كل النُخب المستقلة والحكومية معًا.