د. سالم الفليتي **
مبادرة "طموحي سياحي" من "عُمران" نموذج نحو الطريق الصحيح
قصص السياحة غالبًا ما تُركز على الوجهات، وغالبًا ما يخطر في البال المناظر الخلابة والمعالم الشهيرة وأعداد الزوار. لكن الحقيقة أنَّ العامل الأكثر حسمًا في تجربة السائح هو الإنسان نفسه: بدءًا من موظف الاستقبال الذي يحل مشكلة، مرورا بالمرشد السياحي الذي يروي قصة تراثية، وانتهاء بالشاب الخريج الذي يُقرر أن يبني مستقبله في الضيافة بدلًا من أن يعتبرها محطة مُؤقتة. إن أردنا سياحة مسؤولة، فلا بد لنا من البدء بوظائف مسؤولة، تدريب مُمتاز، فرص عادلة، مسارات وظيفية واضحة وشراكات تضع كل هذه المعايير في أماكنها وتحولها إلى واقع.
من هذا المبدأ، أطلقت مجموعة عُمران استراتيجيتها طموحي سياحي وفق هذه القناعات، حيث تستند هذه الاستراتيجية على أربع ركائز أساسية رئيسة وهي التعليم، الاستقطاب، الاحتفاظ بالكفاءات، والشراكات. والهدف منها أن تصبح السياحة خيارًا مهنيًا جذابًا للعُمانيين، وفرصة حقيقية لبناء مستقبل مستدام. وتطبيقًا لهذا التوجه قامت هذه الاستراتيجية بين عامي 2022 و2025 بزيادة الوعي بين طلاب المدارس، وفتحت مسارات واضحة للدخول إلى بيئات العمل في القطاع الفندقي والقطاعات الأخرى في مجال السياحة. كما استثمرت في تطوير القيادات الواعدة في القطاع، ونسقت مع الجهات الحكومية ذات العلاقة في مجالات التعليم وما يتعلق بالقطاع، وكل هذا يتمحور حول فكرة بسيطة وهي أن السياحة المسؤولة غير ممكنة بدون قوى عاملة مليئة بالحافز وماهرة وفخورة.
في المنطقة يستطيع القطاع السياحي أن يخلق آلاف الوظائف بكل سهولة، لكنه يُواجه تحديات كثيرة كالنظرة السلبية لأعمال الضيافة، ونقص الكفاءات، وكثرة التنقل بين الوظائف. هذه التحديات تُؤثر في جودة الخدمة وتُقلل من الأثر المجتمعي للسياحة. من هنا، تبرز الحاجة إلى سياحة مسؤولة تبني مسارات مهنية واضحة توفر فرصًا عادلة وتفتح الباب أمام الشباب، سياحة لا تهدف إلى توفير الوظائف فقط، وإنما يكون هدفها توفير مسارات وظيفية ذات معنى ومستقبل.
تقوم الاستراتيجية على أربع ركائز أولها التعليم: فقد جاءت المبادرة لتفتح آفاقًا أوسع للتعرف على جوهر العمل الحقيقي. فمن خلال الجولات التعريفية في المدارس والوحدات التعليمية الصفية بالتعاون مع الشراكة العالمية للسفر والسياحة GTTP إلى جانب الشراكات مع الجامعات والكليات، يجري تعريف الطلاب بقطاع يتسم بالإبداع، مدعوم بالتقنيات الحديثة، قائم على التعاون وروح الفريق، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالهوية الوطنية. إضافة إلى ذلك، تولي هذه الركيزة اهتماما خاصا بالمعلمين ومرشدي المسار المهني تقديرا لدورهم المؤثر في توجيه اختيارات الطلاب وصياغة تطلعاتهم المستقبلية قبل تخرجهم من مرحلة التعليم العام. وثانيها الاستقطاب: من خلال مجموعة من البرامج مثل مضياف الذي يجمع التدريب مع فرص العمل في القطاع الفندقي ومسارات الذي يهيئ الخريجين عبر برامج التنقل الوظيفي والإرشاد المهني وموهوب الذي يفتح أبواب القطاع أمام الأشخاص ذوي الإعاقة. كل هذه المبادرات ترسم للشباب طرقًا واضحة ومدعومة للدخول إلى عالم القطاع السياحي، وتؤكد رسالة جوهرية وبسيطة: من يمتلك الشغف للعمل والرغبة في التعلم، سيجد أمامه مسارًا منظمًا للتطور، دون حاجة إلى مغادرة عُمان للانطلاق وتحقيق الطموح. ثالثًا الاحتفاظ بالكفاءات: فالحفاظ على الكفاءات لا يقل أهمية عن تطويرها، ومن هذا المنطلق قدمت هذه الركيزة برنامجين لتطوير القياداتSHIFT وLIFT، واللذين يركزان على تعزيز القدرات الإشرافية والإدارية من خلال مزيج من التعلم المدمج والمشاريع العملية داخل بيئة العمل. وبرنامج GIFT والذي يعمل على تمكين المرأة ودعم تقدمها نحو مواقع القيادة ومبادرات تمكين المرأة.
وأخيرا الشراكات، فلا يمكن لمؤسسة واحدة أن تعالج تحديًا على مستوى منظومة كاملة، ومن هنا تعمل الاستراتيجية تحت ركيزة الشراكات مع الشركاء ذوي العلاقة من القطاع الحكومي كوزارة العمل ووزارة التراث والسياحة ووزارة التربية والتعليم ووزارة التنمية الاجتماعي، إلى جانب شركاء آخرين من كبرى المجموعات الفندقية والشركاء العالميين كالمجلس العالمي للسفر والسياحي WTTC والشراكة العالمية للسفر والسياحة GTTP بهدف الوصول إلى التكامل في مواءمة السياسات مع التدريب والوظائف الفعلية، لتحويل الأهداف والطموحات إلى ممارسات يومية ملموسة.
ومن أبرز نتائج المبادرة هي تعزيز الهوية المهنية حي بدأت الرواية تتغير من فكرة "وظيفة مؤقتة" إلى "مسار مهني متكامل". حيث يساهم تفاعل المدارس وسرد قصص القدوة في إحداث فرق واضح في طريقة نظر العائلات لهذا القطاع. وانخفاض حواجز الدخول. فتوفر البرامج المنظمة خبرات مدفوعة وموجهة، وهو أمر بالغ الأهمية للشباب الذين لا يستطيعون تحمل فترات التدريب غير المدفوعة أو تجارب العمل القائمة على التجربة والخطأ. كما تحسن مستويات الاحتفاظ بالكوادر. فعندما يتلقى القادمون الجدد التوجيه، وخطط التقدم المهني، والتقدير، فإن فرص استبقائهم في القطاع ترتفع. ويمكن التماس ذلك في البرامج القيادية والتي لا تعد رفاهية، بل هي العمود الفقري لاستقرار القوى العاملة. وأيضا تحول الشمولية من شعار إلى ممارسة فعلية حيث إنَّ المبادرات الموجهة للمرأة والأشخاص ذوي الإعاقة توسع قاعدة المواهب وتعكس القيم التي يبحث عنها الزوار بشكل متزايد عند اختيار وجهتهم السياحية.
ومن هنا من المهم التنويه بالاهتمام بالبيئة والحفاظ على الثقافة العمل، ولكن جودة الوظائف لا تقل أهمية. لا تتابع عدد الوظائف التي تم توفيرها فقط، بل تابع من يصل إليها، ومن يتقدم ويظل فيها. كما ننصح باختيار الشباب مستقبلًا يمكنهم تخيله. لا تستخدم صورا جاهزة وإنما استخدم ممارسين حقيقيين وأماكن عمل حقيقية لتوضيح ما يمكن لقطاع الضيافة الحديث تقديمه ولماذا هو مهم. أيضًا وافق بين المدارس والكليات وأصحاب العمل لتوفير معايير وحوافز مشتركة. واستثمر في القادة المباشرين. كما أنه برامج مثل GIFT وGIFTed تثبت أن إمكانية الوصول والمساواة بين الجنسين ليست مجرد إضافات، بل هي معززات للأداء.
لا يتخذ النجاح شكلا معينا أو نتيجة محددة، بل يعتمد على من يقوم بقياسه. فبالنسبة للسياحة فهو يعني جعل المسؤولية واقعًا ملموسًا لا يُقاس فقط بانخفاض الانبعاثات الكربونية أو الحفاظ على التراث، بل أيضا بعدد الأشخاص الذين يزدهرون في عملهم. ويقدم نهج عمران نموذجًا عمليًا يتمثل في التعليم المبكر، الاستقطاب عبر مسارات دخول عادلة، الاحتفاظ بالموظفين من خلال تطوير القادة وتقدير رفاهيتهم، والشراكة بين الحكومة والتعليم والصناعة. هكذا تتحول الأهداف من الوعود والخطط إلى الواقع والتطبيق.
** مدير عام شركاء أعمال الموارد البشرية – مجموعة عُمران