خالد بن سالم الغساني
ليست بغداد مدينة من حجر وطين، ولا عاصمة على خريطةٍ شهدت وتشهد تعاقب الممالك والدول، بل هي نَفَس التاريخ، إنها تاريخ التأريخ، وضياء الحضارة، وروحٌ تُقيم في قلب من يزورها وتستقرُ في نفسه وأنفاسه ولو كانت زيارته تلك لمرة واحدة. وقد كان من حسن حظي أن زرتها مرتين في مطلع العمر، وفي كل مرة تترسخ إقامتها في قلبي ويستقر عبيرها وطيبة أهلها ونسيم نهريها في النفس، في لحظة دخولها يذوب القادم في أزقتها وأسواقها وعلى شطآن نهريها، فيحسب أنه عاد إلى بيته الأول، وكأنَّ بغداد هي الوطن الأزلي الذي نحمله في أعماقنا من غير أن نولد فيه.
منذ أن وضع الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لبناتها الأولى في القرن الثاني للهجرة، رسم لها قدرًا مختلفًا عن سائر المدن. خططها دائرية كأنها قلب الكون، وأحاطها بالأسوار والأبواب العظيمة، لتغدو مدينةً تختصر العالم في حضنها. وحين جاء هارون الرشيد، أطلّ عليها زمانٌ ذهبي، حتى غدت بغداد عاصمة الدنيا، يُشد إليها الرحال من أطراف الأرض. وفي عهد المأمون، وبيت الحكمة يفتح أبوابه للعلماء والمترجمين، ارتفعت بغداد فوق حدود المكان والزمان، وصارت مدرسةً كبرى يتخرج منها العقل الإنساني كله.
أي مدينة تلك التي أهدت العالم الخوارزمي مؤسس علم الجبر، والكندي فيلسوف العرب، والفارابي، والرازي، وابن سينا؟ أي مدينة تلك التي صنعت من الفكر جسرًا يصل ما بين حضارات الهند واليونان وفارس والعرب، لتصبح هي الذاكرة الجامعة لكل ما أنجزه الإنسان؟ بغداد لم تكن مدينة تُقيم في جغرافيتها الخاصة، بل كانت عاصمة للعقل البشري، كتابًا تُقلب صفحاته كل أمة تريد النهوض.
ثم تعال إلى دجلة والفرات، هذين النهرين اللذين يجريان كالشريانين في جسد العراق. على ضفافهما قامت أولى الحضارات، وكتبت الألواح السومرية، وارتفع صرح بابل وأسوارها المهيبة، ودوّت أساطير جلجامش عبر الزمن. دجلة الذي يشق بغداد كأنما أراد أن يقسمها نصفين ليجمعهما معًا، كان وما زال مرآةً للمدينة، يشرب من نوره الشعراء، وتغني لمائه الأمهات. والفرات، نهر الطهر والخصب، ظلّ يروي الأرض والوجدان معًا، فيجعل العراق جنةً بين نهرين، وموطنًا للحياة التي لا تنقطع.
بغداد حاضنة الشعر والفن. في مجالسها تغنّى أبو نواس بالخمر والهوى، وتفاخر المتنبي بكبرياء الشعر:
«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي // وأسمعتْ كلماتي من به صَمَمُ»
وفيها أبدع الجاحظ بكتبه التي ما زالت تُقرأ وكأنها كُتبت اليوم.
ثم حملت بغداد في العصر الحديث قامات جديدة، فغنى السياب شجن الغريب وحنينه للعراق:
«الشمس أجملُ في بلادي من سواها… حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق».
وأنشودة المطر:
"مَطَر... مَطَر... مَطَر ... سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر... أصِيحُ بالخليج، يا خَلِيجْ... يا واهبَ اللؤلؤ، والمحار، والردى".
وصدح الجواهري على ضفاف دجلة:
«حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحييني، يا دجلةَ الخير يا أمَّ البساتين».
أما مظفر النواب فظلّ صوته عاطفةً وعاصفةً لا تهدأ، يجلجل في سماء بغداد وفي ضمير المقهورين:
"مرينا بيكم حمد
واحنا بقطار الليل واسمعنا دگ اگهوه
وشمينا ريحة هيل".
وبجوار هؤلاء، أبدعت نازك الملائكة والبياتي، وارتسمت في فن جواد سليم وجوه الحرية على نصبها الشامخ.
وليس التاريخ السياسي بمعزل عن صورة بغداد؛ فقد كانت مقرًا للحُكَّام والولاة، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي حمل شخصيةً صارمة طبعت مرحلة كاملة من تاريخ العراق. وعلى هذه الأرض دار صراع الملوك والأمراء، واشتعلت الثورات، وسالت دماء الشهداء، فكانت بغداد مرةً سيفًا ومرةً قصيدة، مرةً منارة ومرةً رمادًا، لكنها في كل مرة تنهض من ركامها لتستعيد مجدها، كطائر الفينيق يخرج من قلب الرماد.
شواهدها الأثرية والحضارية حتى اليوم تحكي سيرتها: المدرسة المستنصرية شامخة على ضفة دجلة، كأنها ذاكرة علمية أبت أن ترحل. جامع الخلفاء بمئذنته التي تتحدى الزمن. سوق الشورجة ورائحة التوابل التي تختزن عبق القرون. مقاهي شارع الرشيد حيث ولدت أحاديث المثقفين والسياسيين، وجامعة بغداد التي واصلت دور بيت الحكمة بشكلٍ حديث. وكل حجرٍ في الكرخ والرصافة يروي حكايةً لا تُنسى.
أما العراق، فبغداد قلبه، لكنه جسدٌ من حضارات متعاقبة، من سومر إلى بابل إلى آشور، من الكوفة إلى البصرة، من أور إلى نينوى، كلها صفحاتٌ في سفرٍ واحد. هو وادي الرافدين، حيث خطّ الإنسان أول أبجدياته، وصاغ أول قوانينه، ورسم أول خرائط المدن، وحلم لأول مرة بخلودٍ فوق الأرض.
من هنا نفهم سرّ قول الإمام الشافعي وهو يدخل بغداد: إنها ليست بلدًا كغيرها، ولا محطة عابرة في رحلة الترحال، بل هي وطنٌ يسكن فينا قبل أن نسكن فيه. يقول رحمه الله:
«ما دخلتُ بلدًا قط إلا عددته سفرًا، إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنًا».