أميمة بوخليفي **
يُشكِّل التعاون الاقتصادي العربي ركيزة أساسية لبناء مستقبل مزدهر للأمة، فهو السبيل لتحقيق التكامل والتنمية المستدامة وتعزيز مكانة الوطن العربي على الخريطة الاقتصادية العالمية.
على الرغم من الروابط العميقة التي تجمع الدول العربية ثقافيًا وتاريخيًا ودينيًا، إلّا أن الواقع الاقتصادي يكشف فجوة كبيرة بين ما يُؤمل تحقيقه من أهداف اقتصادية وما تحقق فعليًا؛ فالمنطقة العربية رغم مساحتها الشاسعة التي تتجاوز 13 مليون كيلومتر مربع، وسكانها الذين يزيد عددهم على 450 مليون نسمة، ووفرة مواردها الطبيعية المتنوعة، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بضعف التنسيق بين السياسات الاقتصادية وبنية تحتية مالية وتجارية غير متكاملة، إضافة إلى معدلات بطالة مرتفعة.
والموقع الجغرافي الفريد للوطن العربي الممتد بين ثلاث قارات، يمنحه ميزة لا تضاهى في مجالات التجارة واللوجستيات والاستثمار، وإلى جانب ذلك يملك العرب ثروة طبيعية متنوعة من النفط والغاز والفوسفات والمعادن، فضلًا عن الموارد الزراعية والحيوانية والسمكية المتنوعة. كما تمثل نسبة الشباب في العالم العربي أكثر من 60% من السكان، ما يشكل طاقة بشرية عظيمة إذا ما جرى استثمارها في مجالات الابتكار وريادة الأعمال لتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.
لكن هذه المقومات تصطدم بجملة من التحديات العميقة، منها ارتفاع معدلات البطالة التي تحد من فرص النمو، إضافة إلى تقلبات الأسعار وتأثيرات التغير المناخي على الإنتاج والاقتصاد، مواجهة هذه العقبات تتطلب استراتيجيات مرنة ورؤية بعيدة المدى تستند إلى حلول مبتكرة قادرة على تحويل المخاطر إلى فرص.
من هنا تنبُع الحاجة إلى إيجاد الشمال الحقيقي من خلال تحديد رؤية استراتيجية للتعاون الاقتصادي العربي، ووضع أهداف طويلة المدى مع تبني أطر قانونية وتنظيمية موحدة لتسهيل حركة رؤوس الأموال والتجارة بين الدول العربية. ومن بين المبادرات التي يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة، التفكير بمشروع دينار عربي رقمي"؛ فالعالم كما نراها يشهد سباقًا" نحو الرقمنة المالية لتعزيز الكفاءة والشفافية والشمول المالي.
في هذا السياق، يمكن للعالم العربي أن يحوّل "الدينار العربي الحسابي"، الذي اعتمده صندوق النقد العربي كوحدة تسوية بين الحكومات، إلى عملة رقمية موحدة قابلة للتداول بين الأفراد والشركات، بحيث يرتبط الدينار الرقمي المقترح بحقوق السحب الخاصة (SDR) الصادرة عن صندوق النقد الدولي، ما يمنحه قدرًا عاليًا من الاستقرار والمرونة، وبذلك يصبح بوسع المواطن العربي فتح حساب مصرفي بالدينار الرقمي في بلده، وإجراء مدفوعات وتحويلات داخل أي بلد عربي كما لو كان يتعامل بعملة وطنية واحدة. هذه الخطوة ستخفض تكاليف التحويلات المالية، وستزيل عقبة تعدد العملات وأسعار الصرف، ما يُعزز التجارة البينية ويحفز الاستثمار.
اقتصاديًا، سيساهم الدينار الرقمي في رفع كفاءة الأسواق وتوسيع قاعدة الشمول المالي عبر إدماج شرائح واسعة من الأفراد ورجال الأعمال في النظام المالي الرقمي؛ مما يخلق فضاءً نقديًا عربيًا موحدًا يُقلِّل من تقلبات الأسعار، ويُمهِّد لتكامل أكبر في السياسات النقدية والمالية، أما من الناحية المؤسسية، فإنَّ نجاح المشروع يتطلب إطار حوكمة واضحًا يتولى صندوق النقد العربي قيادته بالتعاون مع البنوك المركزية، مع إنشاء مجلس رقابي مشترك يضمن الاستقرار والشفافية وحماية المستهلك.
إضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز التكامل الرقمي وربط الأسواق المالية والإقليمية، واعتماد آليات تمويل مشتركة للمشاريع الإقليمية، وإنشاء صناديق استثمارية عربية متخصصة في الابتكار والتقنيات الحديثة، وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، مع الاستفادة من خبرات الكفاءات العربية المهاجرة والمؤسسات الدولية لتعزيز الأداء الاقتصادي ودعم الكوادر المحلية.
إنَّ المستقبل الاقتصادي العربي لا يمكن أن يقوم على الموارد التقليدية وحدها، فالعالم يتجه بخطى سريعة نحو الطاقة المتجددة، ما يفرض على الدول العربية الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر؛ بما يعزز مكانتها كمركز عالمي للطاقة المستدامة. وفي الوقت ذاته، يظل الأمن الغذائي والمائي من أهم التحديات التي تستدعي تطوير الزراعة الذكية، وتوسيع مشاريع تحلية المياه، وإقامة سوق عربية موحدة للمنتجات الزراعية لحماية المنطقة من تقلبات الأسواق العالمية.
أما على صعيد الصناعة، فإن تحقيق التكامل الاقتصادي يتطلب توزيع الأدوار وعدم ازدواجية الجهود، بحيث تتخصص بعض الدول في الصناعات الثقيلة، وأخرى في الصناعات التحويلية أو التكنولوجية، مع إنشاء مناطق صناعية مشتركة ترفع من القيمة المضافة وتخلق فرص عمل واسعة. أما المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فهي العمود الفقري لأي اقتصاد حديث، ما يستدعي تقديم الدعم المالي والتقني لهذه المشاريع، وتمكين الشباب من أدوات ريادة الأعمال والابتكار.
إن مستقبل الأمة العربية لن يُبنى على الموارد وحدها؛ بل على الإرادة والرؤية المشتركة. وإذا ما أحسن العرب استثمار ثرواتهم الطبيعية والبشرية بكفاءة، وأطلقوا مشاريع تكاملية مبتكرة تقوم على الرقمنة والطاقة المتجددة والأمن الغذائي والصناعي، فإن المنطقة قادرة على أن تتحول إلى قوة اقتصادية رائدة. غير أن كل هذه الجهود لن تؤتي ثمارها دون إدارة رشيدة تضمن الشفافية والمساءلة وتعزيز المصداقية بين جميع الأطراف، فالتكامل الاقتصادي ليس مجرد مشروعات كبرى، بل هو أيضًا ثقة متبادلة وقواعد واضحة تحمي المستثمر والمستهلك على السواء.
ويبقى التعاون الاقتصادي العربي بين الواقع والطموح تحديًا وفرصة في آنٍ واحدٍ، والرهان الحقيقي يكمُن في قدرة الدول العربية على استثمار الموارد المشتركة بفاعلية، وصياغة مشروع اقتصادي مُوحَّد يضع الاقتصاد العربي في مصاف الاقتصادات العالمية الرائدة. ولذا نؤكد أن الأفق أمامنا واسع، وما نمتلكه من فرص للتقدم والنمو الاقتصادي كبير، لكنه يتطلب التصميم والرؤية والالتزام المشترك لتحويل الطموح إلى واقع ملموس.
** كاتبة وباحثة تنموية- المغرب