صبرا وشاتيلا.. مرثية الدم ووصية المقاومة

 

 

 

خالد بن سالم الغساني

43 عامًا مضت، وما زال جرح صبرا وشاتيلا ينزف في الذاكرة الإنسانية والفلسطينية على وجه الخصوص، كأنَّه وقع بالأمس. دماء الأبرياء لم تجف بعد، وصرخاتهم لا تزال تتردد في أزقة المخيمات وفي ضمير كل من يرفض النسيان. لم تكن المذبحة المشؤومة، واقعة دموية بشعة فقط، لقد كانت ولازالت عند أحرار وشرفاء العالم، مرثية كتبت بالدم، كوصية أبدية تقول للأجيال: من يتخلى عن سلاحه يتخلى عن حقه في الحياة.

في يونيو من العام 1982م، اجتاحت إسرائيل لبنان، فحاصرت بيروت وقصفتها بوحشية، لتسقط آلاف الأرواح تحت الركام وتدمر البيوت وتعطل الحياة. وفي ظل هذا الاجتياح الشامل، ووسط هذا الدمار والدماء، لم يكن أمام منظمة التحرير الفلسطينية، المُحاصَرة والمُنهَكة، سوى القبول بالتفاوض مع الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وصيغ الاتفاق الذي خلص إلى إجلاء أكثر من 14 ألف مُقاتل فلسطيني وسوري وليبي، وتسليم أسلحتهم ومعداتهم الثقيلة، مقابل ضمانات دولية بخروجهم سالمين وحماية المدنيين، وكان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان قد وصف تلك الضمانات بالتزام لا رجعة فيه. واستندت قيادة المنظمة إلى الوعد وصدقته، وسُلِّم السلاح على أن تُنفِّذ الدول المُتعَهِدة تعهداتها وأن يقي ذلك الالتزام، المدنيين شر الغدر والتآمر.

لكن سرعان ما تبخر الوهم والبدء بتنفيذ بنود المؤامرة، فاُغتيل بشير الجُميل في 14 سبتمبر، وانسحبت القوات الدولية على عجل، وتركت المخيمات مكشوفة لخناجر وسيوف الذبح الإسرائيلية، ولم تتأخر سلطات الكيان بقيادة وزير الحرب المجرم الهالك آرييل شارون، في استدعاء ميليشيات الكتائب، التي أحاطت المخيمات بالدبابات، وفتحت الأبواب لجريمة يندى لها جبين الإنسانية، وتبقى وصمة عار على ذات الجبين وشاهد صارخ على خساسة ونذالة وعقلية المُستعمر والصهيونية العالمية.

بين أيام 16 و18 من شهر سبتمبر، ارتُكبت المذبحة، لتخلف ما بين 1300 و3500 شهيد، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، ذُبحوا بالرصاص والسكاكين وأُحرقت بيوتهم على من تبقى فيها.

لم تكن الجريمة عشوائية مهما قالوا وحاولوا وصفها أو اختلاق المبررات لها؛ بل إنها ثمرة ناضجة ومُرّة لقرار نزع سلاح المُقاومة والوثوق بوعود القوى الاستعمارية.

"لجنة كاهان" الإسرائيلية نفسها أقرت بمسؤولية إسرائيل عن تسهيل المذبحة، لكن لا عقاب وقع، ولا عدالة تحققت، فقد عاد القتلة يمرحون، وعادت القوات الدولية بعد الدماء وكأنَّ شيئًا لم يحدث، تاركة الذاكرة الفلسطينية مثقلة بندوب لا تندمل.

مذبحة صبرا وشاتيلا لا يمكن اعتبارها صفحة من الماضي المشؤوم فحسب، لقد كانت ولا زالت درسًا حيًّا ومُتجددًا للحاضر وللمستقبل. كل من يُطالب اليوم بنزع سلاح المقاومة، في غزة أو لبنان، عليه أولًا أن يتخيل بتمعنٍ، عيون الأطفال الذين قُتلوا لأنهم لم يجدوا من يحميهم، والأمهات اللاتي ودعن أبناءهن بلا كفن، والعجزة والشيوخ الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بالله.

السلاح أيُّها الناس، يا مستعمرون ويا صهاينة ويا خونة، السلاح بالنسبة للشعوب المقهورة، يبقى هو صمام الأمان الأخير أمام مشاريع ومؤامرات الإبادة والاقتلاع والتشريد الذي لا ينبغي التفكير مجرد التفكير في تركه أو تسليمه.

بعد أربعة عقود ونيّف، يُعاد المشهد نفسه في غزة المحاصرة بالجوع وأسلحة الدمار والقتل، وقطعان الاحتلال الصهيوني المجرمة؛ حيث تتوالى المجازر بعد أن أصاب الصمم والخرس، مؤسسات المجتمع الدولي، وفي جنوب لبنان؛ حيث تتكرر الضغوط لتجريد المقاومة من سلاحها تحت شعارات "الأمن" و"الاستقرار". لكن ذاكرة صبرا وشاتيلا تقف شاهدًا صارخًا لتقول: كل من يثق بالضمانات الاستعمارية يفتح الباب لمذبحة جديدة.

مذبحة صبرا وشاتيلا وصية دموية للحاضر: السلاح هو الكرامة، والمقاومة هي الحياة. أما الثقة بوعود المستعمر فهي الطريق الأقصر إلى المقابر.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة