سالم بن محمد بن أحمد العبري
حين كنَّا ليلة الإثنين يوم 7 سبتمبر 2025 عائدين من جولة من على رؤوس جبال الحجر الغربي أي مناطق (القَنة بالحمراء)، وفي بعض قُراها التابعة للرستاق، وبعض من الغرب (السراة)، التي تتبع عبري، و كنَّا نترقب، خسوف القمر كآية من آيات الله {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس:38-40]، وصرنا نترقب خسوف القمر بين الساعة الثامنة والتاسعة ليلا، ولا نهتم لقول بعض المتشائمين، ولا نلقي بالًا لتطيُّرهم.
وما إن خلدنا إلى النوم وأسرعنا ضحى يوم الإثنين بالعودة لمسقط وبركاء، وأخذنا قسطا آخر من الراحة من إجهاد الطريق، فلم نتتبع وسائل التواصل والاتصال؛ وإذا بالابن أحمد يقول: هل علمت بوفاة الشيخ عبدالله بن حمود الحارثي؟، نزل عليَّ الاتصال كصاعقة الرعد، وأيقنت حينها؛ أن المجربين لهم الحق ولديهم الخبرة إذ لم يربطوا حدوث آيات الله بخلقه. اتباعًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الشمسَ والقمرَ لا يَنكَسِفان لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكنهما آيتانِ من آيات اللهِ، يخوِّفُ اللهُ بهما عبادَه، فإذا رأيتُم ذلك، فصلُّوا وادعُوا حتى ينكشِفَ ما بكم). وفي هذه الليلة، انكسف قمر في السماء، وانكسف قمر في الأرض وكان عمره حافل بالعطاء والأحداث.
أتذكر حين كنَّا في عزاء أحمد بن يوسف الحارثي، وخرجنا والوقت يسعفنا للزيارة، قلت للشيخين هلال وحمود هيا بنا نمر على الشيخ عبد الله بن حمدون بن حميد الحارثي، بقرية الغلاجي فقال رفيقاي: قد يمسك بنا للعشاء والوقت متأخر. فقلت لهما: سأقنعه بالتريّث وأنّنا نمر لرؤيته الليلة فقط، وليكن العشاء في وقت لاحق. فإذا صوته في شيخوخته كصوته في شبابه مستبشرا مرحا ويردد على مسمعنا: العشاء هنا. وصلنا إلى صومعة الشيخ؛ فإذا هو ينتظر كيعقوب في انتظاره إياب يوسف عليهما السلام. يقف منتصباً في قامة تتطلع إلى السماء وبصوت فيه فحولة الكبار وحكمة النوابغ ومعين التجارب، وحين دخلنا إلى البيت كانت هناك شجرة عتيقة تحتضنه بظلها وأصالتها وهي أطول عمرا؛ لكنها أخذت من روحه وفحولته وعزته وإبائه، وجلس بيننا عن يمينه الشيخ هلال السيابي يحدثه عن ديوانه (وادي عبقر)، ويتبعه الشيخ حمود (أبو فيصل)، يتحدث عن عشرات المقالات والافتتاحيات بجريدة عُمان واللقاءات مع العديد من الشخصيات وهو يتربع على رئاسة تحرير جريدة عمان وينفذ توجهات الدولة بلساني إعلاميها الأول الأخ الراحل عبد العزيز الرواس، ذلك الرجل الذي علمنا أننا لسنا موظفين بل حملة أخلاق وشيء من التقوى إلى أن عاجله الرحيل.
أذكر أنه في آخر زيارة له للقاهرة وأنا بها ملحق إعلامي أسرَّ لي قائلًا: "بلِّغْ مكتب وزير الإعلام المصري السيد صفوت الشريف أن يدعو الأستاذ محمد عبد الجواد للعشاء الرسمي". وكنتُ أعرف أنّ علاقتهما بمثابة علاقة (معاوية وعمرو بن العاص). وكيف لي أنا الإضرار بهذه العلاقة الوطيدة ومن ثَمَّ الإضرار بعلاقة البلدين (مسقط والقاهرة)، وأنا أعرف تمامًا الأستاذ محمد عبد الجواد كما يعرفه إبراهيم نافع، ومحفوظ الأنصاري، ومكرم محمد أحمد، فلم أسعَ إلى تعكير صفو الصورة بإيقاع الخلاف بين شخصين؛ فلم أنبس لأحد ببنت شفة عن خلافهما معًا.
نعم استدار الشيخ بن حمدون إليّ وكأنه يقسِّم اهتمامه وحديثه، ودار الحديث بيننا عن صحبته للشيخ محمد بن أحمد بن عيسى ووفائه له، وأخذنا الحديث عن الحاج عبدالرحيم البلوشي الذي يفخر بلقب الغزواني وعن زمالة لم تكن لصيقة بمجلس الشورى كالالتصاق مع الشيخ يحيى بن عبد الله النبهاني والعلاقة معه التي امتدت منذ وطئت قدماي القاهرة، في 1968، وذلك التفاعل معه وذلك التمازج مع الأخ عبدالله السعيدي وقد ضمتنا اللجنة القانونية بمجلس الشورى، وقد خرجنا بدراسة هامة مهَّدت للتنظيم القضائي. لقد كان محيط الشيخ عبد الله بن حمدون زاخرًا، وتجاذبنا حديثا رائعا وختمناه بمسك معطر، بأبيات من قصيدة (ربى الحمراء).
لقد كان الشيخ يدير الحديث بيننا ثم مضينا على وعد بلقائه في قابل الأيام فارتضى ذلك بعد يمين مغلظة، وخرجنا وظل الشجرة العامرة يظللنا وكأنَّه يقول: إنه أبقى من الشيخ. وما كاد يمضي أسبوع أو أكثر إلا ويتصل بي هاتفًا: متى ستأتون، ونحن كنَّا أحرص على اللقاء حرصه على الضيافة والإكرام، ثم ذهب هو للعلاج مرة أو مرتين، ومازال يهاتفني ويسألني: متى ستأتون، حتى ضرب لنا موعد اللقاء.
ولأنَّ الخريف في بلادنا يشجع على التجوال فقد اتفق الجمع على اللقاء على مفارق الطرق الموصلة لبيت الشيخ عبدالله بن حمدون الحارثي؛ وإذا شجرة بيت الغلاجي تستبين أصواتنا؛ وكأنها تقول: هذه مقاعدكم في حياض ظلالي، والحديث لا يكفيه وقت زيارة يُراد لها أن تمد أطباق الضيافة، وكأن الأشياخ إبراهيم العبري بن سعيد العبري وسالم السيابي قد أتوا لزيارة الأمير محمد بن أحمد الحارثي، فقد وصفه العبري بقوله: [لكن كلبان لم يئس قرار إلى/ نحو الأمير بن عيسى السيد السمحِ-عساه يرجع من عند الأمير بما/ يرجو ويأتي بصدر منه منشرحِ]. والشيخ بيَّن رغبته في البقاء والحديث؛ لكنه يخجله وعد الشيخ محمد بن أحمد للقهوة المبسوطة في حصن القابل، والقهوة مازالت وسيلة لاطلاعنا على الحصن وترميمه والحفاظ عليه، كما يكن لغيره من الحصون المأثورة، وأسترجع الماضي لزمن قد طاف عن نصف قرن حين كنت صبيا مرافقا حين شرعت الرحلة من الحمراء، ثم نزوى، ثم المضيبي، ثم القابل ثم بدية، بـ(المنترب)، ثم الكامل والوافي، ثم جعلان بني بوحسن، ثم نصل إلى لمبتغى في جعلان بني بوعلي، وأكاد لا تفارقني صورة الشيخ وهيئته، وهو يتوسط البرزة الممتدة في حضن الحصن وسكته الفسيحة.
وصلنا إلى الغداء عند الشيخ عبد الله بن حمدون وفي نفسي أقول: ليتنا كنا صياما، حتى يطول الحديث بيننا، ويمتد هذا اللقاء، وتطول هذه الألفة والصحبة ولا ينقطع حديث الذكريات فيما بيننا. ويتقدم بنا الشيخ محمد بن أحمد إلى ساحة كرم الشيخ عبد الله بن حمدون حيث مّدت البُسُط بالمجلس والفناء الخرجي وتجمع المدعوون وكأن مُنادٍ صاح بهم (برنامج يوم الشواء) فتجمع الحضور من القرى كلها، وأديرت أطباق الحلوى من جديد، يتبعها بخور العود، ودعوناهم بأن يتكرموا بالزيارة ردًّا ووفاء وفي ذلك فرصة لاستكمال حديث الذكريات الذى لا يقطعه إلا الدهر؛ إلا أنّ المشاغل والسياحة في أرض الله ومراجعة الأطباء ألهت الجميع وسبق الأجل المحتوم فيرحل ذلك الرمز والمثال والنموذج العُماني والقدوة دون أن نراه في بيتي ببركاء أو في قمة جبل الشرف بالحمراء، كما سعدنا به ذات يوم في (الخضراء) بالعراقي بحديقة الأخ غصن بن هلال بن محمد العبري. ولنا أمل في أبنائه وأن يستمر الوصال، وتتلاقى الأرواح والهِمَم.