أحمد بن محمد العامري
الفن ليس مجرّد صور تتحرّك على شاشة أو أصوات تنبعث من مسرح، بل هو ذاكرة أمّة وصوت وجدانها العميق. ومصر، منذ عقود، لم تكن مجرّد بلد يصنع الفن، بل كانت رحم الإبداع العربي ومصنع الحلم الجماعي، حيث تعلّمنا الضحك والبكاء والحب من خلال شاشتها وأغانيها ومسرحها.
وفنّ مصر وفنّانوها جزء من تكويننا الثقافي والعاطفي، وما قدّموه وما زالوا يقدّمونه لا يختلف على جماله اثنان، غير أنّ النقد الفني جزء لا يتجزّأ من عملية الإبداع، وهو لا ينتقص من قيمة بلد أو من مكانته بقدر ما يسعى إلى تطوير الأداء والارتقاء بالمستوى.
تابعتُ الانتقادات التي وُجِّهت إلى الفنان السوري سلّوم حدّاد عقب تعليقه على صواب لغة الأعمال الفنية المصرية التاريخية، مشيرًا إلى صعوبة النطق السليم، ووجود لحن في النطق مقارنة بممثلي بلاد الشام. خلال تعليقه، حدّد نطاق النقد بالفصاحة وفي إطار الأعمال التاريخية، مستثنيًا بعض الممثلين المصريين العمالقة المعروفين بضبط اللغة وفصاحتها. وحقيقةً، لم ينل من باقي الأعمال الدرامية المصرية، ومع ذلك قدّم اعتذاره، رغم أنّني لا أرى أنّه ارتكب زلّة تستوجب ذلك.
على الجمهور المصري وفنّانيه اعتبار تعليق حدّاد نقدًا فنيًا يؤخذ من باب البحث عن مواطن الخلل في فصاحة اللغة بالأعمال التاريخية ووضعها موضع مقارنة بالأعمال التاريخية السورية. ولا شكّ أنّ النقّاد المصريين لديهم الحصافة الكافية لرؤية الفارق.
شخصيًا، شاهدتُ عدّة مقارنات بين الدراما المصرية والسورية لبعض الأعمال التاريخية، وكمشاهد عربي ولستُ ناقدًا فنيًا أقول: إنّ الأعمال التاريخية السورية بلا شكّ تتفوّق على الأعمال المصرية في فصاحة اللغة وضبط لحنها، وكذلك في الإخراج والأداء الفردي. وهذا ينبغي أن يكون دافعًا للدراما المصرية لتشحذ الهمم وتصحّح مسار الأعمال التاريخية، فهذا ليس عيبًا، «فمَن لا يتجدّد يتبدّد». نحن نشأنا على الدراما المصرية ونعشق كل ما تقدّمه، ولكن بعد ظهور الدراما السورية وجدنا أنفسنا أكثر ميلًا إليها؛ لأنّها أتت بأسلوب متجدّد وأفكار مختلفة.
الهجمة على الفنان سلّوم حدّاد أعادت إلى ذاكرتي موقفًا قديمًا بيني وبين صديق مصري قبل أكثر من عشرين عامًا. ذات مساء، كنّا نتحدّث عن الفن حتى وصلنا إلى ذكر الفنانة الكبيرة أم كلثوم. قلت له: أحبّ أغاني أم كلثوم باستثناء أغانيها باللغة العربية الفصحى، إذ إنّ أذني لا تستقبل النطق الخاطئ لبعض المفردات، مثل «هزا» و«هكزا»، وكذلك قلبها حرف الطاء «ز». وقلت إنّ فيروز أو عليا التونسية أو وردة الجزائرية أو ماجدة الرومي أفضل من أم كلثوم في ضبط اللغة الفصحى. بطبيعة الحال، عاطفة المصريين لكل ما هو مصري وعدم قدرة صديقي على الفصل بين المسارات جعله لا يقبل هذا الرأي، بينما أنا كنت أفرّق بين غناء أم كلثوم بالفصحى وبين إرثها الفني الكبير، الذي أمامه أنا أصغر من أن أقدّم أي نقد له. ولا يعني رفضي لبعض الأخطاء اللغوية أنّني أعادي كوكب الشرق أو فنّ مصر أو مصر كبلد.
وعودًا إلى ما قاله الفنان سلّوم حدّاد، أجد نفسي متفقًا مع ما ذهب إليه في هذا الجانب. وعلى الدراما المصرية أن تتقبّل التحدّي وتجدد أدواتها وتُخرج عملًا تاريخيًا فصيحًا يخلو من اللحن اللغوي ومن غير «مازا الزي تفعله يا هازا، وهكزا»، ويوازي أو يضاهي الدراما السورية. وإلى ذلك الحين تبقى الدراما السورية بلا منافس عربيًا.
الفن ليس ميدانًا للخصومة، بل جسرًا للتكامل والإبداع المشترك. وما بين مصر وسوريا من تاريخ عريق وروابط أخوّة يجعل النقد فرصة للارتقاء لا وسيلة للتجريح أو القطيعة. وإذا كان ثمّة تفوّق درامي هنا أو هناك، فإنّ المستفيد الأكبر هو المشاهد العربي الذي يستحقّ أعمالًا تليق بثقافته وتاريخه.