إسماعيل بن شهاب البلوشي
اعتادت أمتنا، عبر مراحل مختلفة، أن تنظر إلى الثمار أكثر من نظرها إلى الزرع، وإلى النتائج أكثر من نظرها إلى الأسباب. كأننا نتعلق بما هو قريبًا وسهل المنال، بينما نتردد في خوض مشقة العمل الجماعي العميق، والتفكير الاستراتيجي البعيد، وبناء الأسس المتينة التي تسبق أي حصاد.
هذه الذهنية جعلتنا نختلف عند مرحلة النتائج؛ إذ تتعدد الأصوات وتتصارع حول من يملك الحق في قطف الثمار، بينما الجهد المشترك كان في الأصل ضعيفًا أو شبه معدوم.
اليوم نرى كثيرًا من الدول حتى الأشقاء منها – تعمل بمفردها، تسير وفق أجنداتها الخاصة، لا تنظر إلا لمصالحها أو ما يناسب وضعها المالي أو علاقاتها الخاصة ومن ترى أنه أقرب لها. وإذا حدثت أزمة بسبب خياراتها، فإنها سرعان ما ترفع الصوت مطالبة الآخرين بالوقوف معها، وتستحضر شعارات العاطفة: "أين العروبة؟ أين الأخوّة؟ أين التضامن؟".
لكن التضامن الحقيقي لا يُبنى بالهتاف ولا في لحظة المحنة، بل في التخطيط المشترك منذ البداية، وفي تحمّل المسؤولية قبل وقوع النتائج لا بعدها.
جوهر الأزمة أن الفكر العربي ظل أسيرًا للفردية، يتراوح بين زعيم أو حزب أو تيار، ولم يتحول بعد إلى «فكر الدولة» أو "فكر المجتمع".
إذا أردنا أن نصنع تحولًا حقيقيًا، فلا بد من الانتقال من ضيق الفرد إلى سعة المؤسسة، ومن نزعة المصلحة اللحظية إلى الرؤية المشتركة الممتدة. الفكر الاستراتيجي هو الذي يحمي الأمة من المفاجآت، وهو الذي يُحدد متى نتفق ومتى نختلف، وكيف نصوغ مواقفنا بوعي، لا بردود أفعال عاطفية.
لقد أثقلت الأمة ترسبات الماضي: نزاعات قبلية، انقسامات مذهبية، حساسيات مناطقية، وصراعات سياسية أكلت من جهدها وزرعها. إن تجاوز هذه الترسبات ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. من دونها سنظل نُكرر الدائرة نفسها: قطفٌ متنازع عليه من دون زرعٍ مشترك.
إن وحدة الهدف، والصدق في التعامل، والشجاعة في تجاوز الإرث السلبي، هي مفاتيح الزرع الجماعي الذي يضمن الحصاد المشترك.
الزرع هنا ليس مجرد صورة بلاغية، بل هو تعبير عن كل جهد تأسيسي: الزرع في التعليم والفكر لإعداد أجيال تعرف كيف تدير مستقبلها، والزرع في الاقتصاد ومشاركة الدولة المحتاجة للمال من أصحاب الغنى.
المثل العُماني السائد "الحاجة الرجال هو إكرامهم وقت الراحة لتجدهم يوم الشدة". والفكرة الأقرب إلى العروبة ألا يستغل البعض مالهم في حين أن الأخ بحاجة له ولا يجعله سببًا لتذمر جاره.
في الأثر: إذا طبخت فلا تجعل جارك يشم الطعام فقط؛ بل أعطه! وفي الأثر أيضًا: راعي أهلك إن كنت غنيًا، فلا تلبس ابنتك أفضل من بنات أعمامها إن كانوا أقل غنى.
البناء العربي شكله بيت واحد، لكنه دهاليز لا تلتقي في المجلس العام لتأكل سويًا؛ بل إنها قد تحفر الجدار وتنسى أنه جدار واحد سيسقط على الجميع.
البيت العربي يحتفل عند الجيران بملابس جميلة لكنه يرتدي ملابس ملونة في داخله. تحملتكم العروبة أزمانًا حتى علم القريب والبعيد أنه اسم حروفه كحجر الدومينو تدحرج الواحدة الأخرى.
وبناء استقلال حقيقي لا يتأثر بعواصف الخارج يحتاج إلى تضحية وأسس وصدق والتقاء في فكرة الهدف العربي وإن لم يكن عليكم أن تجدوه وتسموه وتؤمنوا به.
الزرع في الأمن والدفاع لحماية الكيان المشترك من المخاطر، والزرع في الثقافة والإعلام لبناء وعي ناضج يرفض التفرقة ويحتفي بالوحدة.
من يزرع في هذه الحقول جميعًا يحق له أن يقطف ثمرة العزة والكرامة والاستقرار. أما من يكتفي بالشعارات ويهرب من مسؤولية الزرع، فلن يذوق سوى مرارة الخيبة والتأخر.
وأخيرًا.. المعادلة واضحة وبسيطة لكنها صعبة التطبيق: إن أردنا أن نقطف سويًا، فعلينا أن نزرع سويًا. لا نتائج بلا مقدمات، ولا حصاد بلا تعب، ولا وحدة بلا مشروع مشترك.
إنَّ المستقبل لا يُعطى هدية، بل يُصنع بالوعي والعمل والتخطيط. وحين تدرك الأمة هذه الحقيقة وتؤمن بها، تتحول من جمهور متفرج إلى صانع تاريخ.
فليت شعري يقرأ بترفع حفظ الله الأمة من شر الفتن وسلم قادتنا جميعًا من كل شر.