محمد بن علي البادي
في نهارها الهادئ وبين أحيائها المطمئنة؛ فوجئت الدوحة بحدث هزّ كيانها وكيان المنطقة بأسرها، حين استهدف الكيان الإسرائيلي قادة من حركة المقاومة الإسلامية حماس على الأراضي القطرية.
لم يكن المشهد عاديًا، ولم يكن مجرد عملية اغتيال تقليدية، بل كان عدوانًا على السيادة القطرية قبل أن يكون استهدافًا للمقاومة، وتجاوزًا لكل الخطوط الحمراء التي كان يُظن أنها محمية بحسابات السياسة والتوازنات الإقليمية. لقد أصبح واضحًا اليوم أن الاحتلال قادر على انتهاك أي حدود، وأن الرسائل التي يبعث بها عبر ضرباته لا تقتصر على العدو المباشر، بل تمتد إلى كل دولة عربية تتدخل في حماية القضية الفلسطينية.
منذ سنوات طويلة، ارتبط اسم قطر بدور الوسيط في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، فهي استضافت المكتب السياسي لحركة حماس وفتحت قنوات تفاوضية متعددة ومعقدة، وكانت تُعتبر قناة مقبولة من الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة. ولكن ما حدث كشف أن هذا الدور لم يعد كافيًا لردع العدوان، وأن السيادة الوطنية لم تعد خطًا أحمر أمام إرادة الاحتلال، لا سيما حين تتوافر لديه المعلومات الاستخباراتية والغطاء السياسي الدولي. إن الضربة لم تستهدف فقط شخصيات قيادية، بل حاولت إرسال رسالة شاملة إلى المقاومة بأن لا ملاذ آمن لأي قائد أو بيئة سياسية، وأن اليد الإسرائيلية باتت قادرة على الوصول إلى أي مكان، مهما كانت القواعد القانونية أو الدبلوماسية.
لكن التقدير الإسرائيلي الخاطئ ينسى أن مثل هذه الاعتداءات لا تضعف المقاومة؛ بل تزيدها حضورًا في وعي الجماهير العربية والعالمية على حد سواء؛ فالدم الذي سال في الدوحة امتزج بالدماء التي سالت في غزة والضفة، وأصبح رمزًا لاستمرار الصراع وامتداد القضية الفلسطينية إلى ما هو أبعد من حدود الأراضي المحتلة. وفي الوقت نفسه، فقد كشف هذا الهجوم عن هشاشة الحماية الدولية للدول العربية، حتى تلك التي يُعتقد أنها محمية بحلفاء أقوياء.
إنَّ الولايات المتحدة تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية فيما جرى؛ فهي الداعم الأول لإسرائيل سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، وهي التي توفر الغطاء الدبلوماسي في المحافل الدولية وتحميها من أي مساءلة قانونية. ولو لم يكن هناك ضوء أخضر أمريكي، صريحًا كان أو ضمنيًا، لما تجرأت إسرائيل على تنفيذ هذه العملية داخل عاصمة عربية مستقلة. المفارقة الكبرى أن قطر تحتضن على أراضيها قاعدة العديد الجوية، أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، والتي يُفترض أنها الدرع الذي يحمي الدولة من أي تهديد خارجي. ومع ذلك، فقد جاء القصف الإسرائيلي ليكشف حقيقة مرة، مفادها أن واشنطن تحمي مصالحها أولًا، وأن حماية سيادة قطر ليست أولوية عندما تتعارض مع مصلحة إسرائيل، ربيبتها المدعومة بالسلاح والمعلومات والغطاء السياسي.
على المستوى الإقليمي، يكشف هذا العدوان عن تحول جديد في طبيعة الصراع؛ فالمنطقة لم تعد مجرد مسرح للصراعات التقليدية بين الاحتلال والفصائل الفلسطينية؛ بل أصبحت بيئة مفتوحة للتدخلات المتبادلة والتحالفات المشبوهة؛ حيث تمارس إسرائيل سلطتها العسكرية عبر غطاء أمريكي، في محاولة لإخضاع المقاومة وتقييد أي مساحة للتفاوض أو الحماية. ورغم كل ذلك، فإن الشعوب العربية لم تتقبل هذا الواقع بصمت؛ فالاحتجاجات ووسائل التواصل الاجتماعي امتلأت بالرسائل المنددة، لتثبت أن إرادة الشعوب لا يمكن كسرها بالتطبيع أو التواطؤ، وأن القضية الفلسطينية لا تزال حية في ضمير الأمة.
إن ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد عملية اغتيال، بل تحولًا استراتيجيًا خطيرًا يُعيد تشكيل قواعد الصراع في المنطقة. لقد سقطت أقنعة كثيرة، وتكشف الدور الحقيقي لكل الأطراف: إسرائيل مجرمة، أمريكا شريكة ومقدمة الغطاء، والمقاومة وحدها تواصل المقاومة. والدرس الذي يجب استخلاصه هو أن المقاومة لا تحميها الحدود الجغرافية وحدها، وأن السيادة الوطنية تبقى عرضة للخطر ما لم تتخذ الأمة جمعاء مواقف حقيقية ومباشرة تجاه انتهاكات الاحتلال.
وفي الختام.. سيذكر التاريخ أن قادة حماس استُهدفوا على أرض عربية، وأن دماءهم لن تضيع هدرًا؛ بل ستكون وقودًا لوعي جماعي جديد؛ فالدبلوماسية المهددة والسيادة المسلوبة لم تعدا حاجزًا أمام إرادة الاحتلال، لكنهما تقدمان فرصة للأمة العربية لتعيد ترتيب حساباتها، وتعيد تعريف قواعد الصراع مع الاحتلال، بحيث تصبح الدماء في الدوحة صرخة لا يمكن تجاهلها، ورسالة قوية بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع محلي؛ بل قضية أمة كاملة تتجاوز الحدود والميادين.