ريم الحامدية
هنا حيث الأسواق العُمانية القديمة تختلط رائحة القهوة بالهيل مع عبق الورد واللبان، وحيث ينادي الباعة على بضاعتهم بأصوات تملؤها الحياة، تتجلى حكايات مختلفة عن اقتصادنا، إنها ليست أرقامًا وموازنات؛ بل تفاصيل صغيرة نحن أبناء الوطن نصنعها كل يوم.
ففي كل يوم نمد أيدينا إلى تفاصيل صغيرة لا نلقي لها بالًا؛ كفنجان القهوة الذي نشتريه على عجل من المقهى القريب من المنزل أو من سلسلة كافيهات عالمية، أو رغيف الخبز من مخبز الحارة، أو نقرة سريعة على تطبيقات التوصيل تختصر علينا عناء الطريق أو مشوار قصير إلى السوبر ماركت الذي فتحه الشاب العُماني في زاوية من منطقته، قد تبدو قرارات عابرة لكنها في الحقيقة تشبه قطرات المطر المتفرقة سرعان ما تتشكل ليجري منها الوادي ثم يصبح نهرا ثم بحرا يغير ملامح الأرض، إنها ليست عادات يومية فحسب إنها الاقتصاد في صورته الأصدق.
فحين نشتري ونختار منتجًا عُمانيًا نحن لا نقتني السلعة فحسب؛ بل ندعم القيمة المحلية المضافة ويتجلى ذلك في يد عُمانية تزرع وتصنع وتسوق، فندعم شابًا بدأ مشروعًا صغيرًا، وحِرفيًا يصوغ بيده المشغولات التراثية، ومزارعًا يزرع أرضه بثقة أنَّ أبناء بلده سيشترون ثمارها. وحين نميل إلى منتجات خارجية بلا وعي نحن نسمح لريالاتنا أن تُغادر دون عودة؛ الأمر لا يتعلق بالمنع والمنح بل بالوعي، وعي أن كل خيار صغير هوء جزء من معادلة كبيرة، أن الاقتصاد ليس أرقاماً في تقارير رسمية ولا خطوطاً في البورصات العالمية؛ فالاقتصاد يعيش في خطواتنا اليومية وفي اختياراتنا الصغيرة وفي اللحظات التي نغفلها لكنه يصنع مستقبلًا كبيرًا مستندًا إلى إرادة الناس ووعيهم وحبهم لوطنهم.
الاقتصاد في جوهره يسكن في هذه التفاصيل في حقيبة التسوق التي نحملها في تذاكر المواصلات العامة التي نستخدمها في اختيارنا بين المنتج المحلي أو العلامة العالمية، كل قرار صغير يكتب سطرًا جديدًا في قصة السوق ويترك أثرًا أبعد مما نتخيل؛ إذ إن "اقتصاد التفاصيل"- كما أحب أن أُسميه- يذكرنا بأننا شركاء في رسم الطريق؛ فالحكومات تضع السياسات والشركات تنفذ المشاريع، لكن نحن بقراراتنا نحدد من ينمو ومن يزدهر ونبني مستقبلا يعكس هويتنا وعطاءنا.
لذلك حين نعبر في أسواق مطرح وصحار ونزوى ونشاهد وجوه التجار العُمانيين تضيء بابتسامة عند كل زبون ندرك يقيناً بأن اختياراتنا لا تصنع فارقاً شخصيًا؛ بل تبني اقتصاداً فدعمنا للمنتج المحلي بكافة أشكاله وأحجامه لا يقتصر على اقتناء السلع؛ بل نزرع بذرة قيمة محلية مضافة ستثمر غدا، إنها ليست مجرد تفاصيل إنها نبض اقتصادنا وحكاية وطننا الذي نصنعه بأناملنا يومًا بعد يوم.
ومن هنا علينا ألا نكتفي بالوعي الفردي؛ بل أن نجعل "اقتصاد التفاصيل" ثقافة جماعية فلنجلس مع عائلاتنا حول موائدنا ولنتحدث مع أصدقائنا في مقاهينا، ولنفتح حوارات في مدارسنا وجامعاتنا ومجالسنا عن معنى دعم المنتج المحلي وعن قوة القيمة المحلية المضافة في بناء اقتصادنا الوطني.
ومن هنا أُجدد الدعوة لبناء جيل واعٍ يضع تفاصيلنا الصغيرة في خدمة مستقبل أكبر فكل ريال نوجهه بعناية وكل اختيار نمنحه وعيًا.
فلنُغيِّر ثقافتنا ولنجعل من قصصنا اليومية دروسًا حيَّة في الاقتصاد نرويها لأبنائنا وبناتنا، حتى ينشأ جيل يعرف ويعي أن التفاصيل التي لا نُلقي لها بالًا تصنع مستقبل الوطن، وحينها فقط لن تكون القيمة المحلية المُضافة مجرد مصطلح اقتصادي؛ بل أسلوب حياة وركيزة من ركائز انتمائنا لعُمان.