د. صالح بن ناصر القاسمي
كثيرة هي القيم التي إذا تمسكنا بها ومارسناها عن حب واقتناع تام جعلتنا نشعر بالسعادة، لا لأنها تحقق مصلحة شخصية فحسب، بل لأنها تمنحنا نصرًا على أنفسنا البشرية التي كثيرًا ما نخوض معها صراعًا بين الخير والشر.
ومن أعظم هذه القيم قيمة العطاء اللامحدود، ذاك الذي يشبه شلال ماء نقي متدفق، يلامس القلوب فيبث فيها حياة جديدة. فمن يتربى على العطاء يعيش السعادة الحقيقية في أجمل صورها، إذ يمنحه العطاء طاقة إيجابية تسري في روحه وتفيض على من حوله، فيتحول إلى إشعاع نوراني يدخل القلوب دون استئذان.
وللعطاء صور شتى، لكنها تلتقي جميعًا عند غاية واحدة؛ فهي تربط المعطي بالمستقبل برباط من الرحمة والإنسانية. وأبسط تلك الصور وأكثرها تأثيرًا لقاء الناس بابتسامة صادقة نابعة من القلب، لتصل مباشرة إلى القلوب. وقد قيل: "البشاشة خير من العطاء"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة". وخير من جسّد هذه المعاني رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، الذي كان عطاؤه مُمتدًا بلا انقطاع، ملك به قلوب الصحابة وأسر قلوب من لقيه.
إنَّ العطاء الحقيقي لا يُقاس بالمقابل، ولا يخضع لحسابات المبادلة، بل هو سجية راسخة في النفس. كما أن الوصول إلى هذا الرقي ليس سهلًا، لكنه علامة على انتصار الإنسان على أنانيته، وقفزه فوق عثرات النفس. وهناك عطاء لا يُوصف ولا يُثمّن، لأنه فطريّ زرعه الله في قلب الإنسان، يجعله معطاءً بالفطرة، لا ينتظر مقابلًا ولا يحده زمن.
ومن أروع صور هذا العطاء ذلك الذي تحمله مشاعر الأم، فهي تعطي بلا حساب، وتضحي بصحتها وراحتها في سبيل أبنائها. هو عطاء نقيّ مصحوب بالرحمة والشفقة، عطاء يُرهق الجسد لكنه يبهج الروح، ويجعلها في أوج السعادة لأنها ترى ثمرته في حياة الآخرين.
ويمتد العطاء ليشمل الكائنات كلها، فالإنسان بعطائه للحيوان أو الطير أو حتى للبيئة يشعر بأنَّه جزء من نسيج الكون الكبير، فيزداد إحساسه بالرحمة وينمو في داخله وعيٌ بأنَّ كل مخلوق له نصيب من الرعاية والاهتمام. إنَّ العطاء في جوهره ليس فعلًا آنيًا، بل هو انعكاس لعقيدة راسخة في قلب الإنسان تؤكد أنَّ الخير كلما انتشر عاد لصاحبه أضعافًا مضاعفة.
وهناك أيضًا العطاء المادي، وهو امتحان عسير للنفس البشرية التي جُبلت على حب المال. فجاء الإسلام بفريضة الزكاة، وحثّ على الصدقات، لتكون وسيلة لتطهير النفس قبل المال، ولتربية القلب على السخاء لا على الشح. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. فالزكاة في حقيقتها نماء، إذ يظن الإنسان أن العطاء ينقص ماله، لكن وعد الله حق أن ما يُنفق يعود مضاعفًا بالبركة والسعة والطمأنينة.
وليس المسلم وحده من يدرك هذه الحقيقة، بل هي سنة كونية عامة. ففي إحدى المقابلات مع ثري غير مسلم، تحدث بوضوح أنه كلما أنفق في مشاريع خيرية زاد ماله وتفتحت له أبواب الرزق من غير عناء. فإذا كان غير المسلم قد لمس هذا الأثر بالتجربة، فالمسلم أولى أن يؤمن بهذه الحقيقة إيمانًا راسخًا، ويحرص على تطهير نفسه وماله بالعطاء.
وللعطاء بُعد آخر قلّما يلتفت إليه الكثيرون، وهو العطاء بالوقت والاهتمام. أن تمنح شخصًا من وقتك لتستمع إليه أو تواسيه أو ترشده، قد يكون أعمق أثرًا من المال نفسه. فهناك من يملك المال لكنه يفتقد الكلمة الطيبة أو الأذن الصاغية، بينما لحظة صادقة من الاهتمام قد تغيّر حياة إنسان كاملة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"، وهذا يبيّن أن العطاء ليس فقط في المال، بل في كل ما ينفع الآخرين.
كما أن العطاء بالعلم من أرقى أنواعه، فالمعلم الذي يهب طلابه العلم، والكاتب الذي يسكب فكره على الورق، والباحث الذي يكرّس عمره لاكتشاف جديد، جميعهم يمارسون عطاءً لا يزول أثره بمرور الزمن، بل يبقى ممتدًا عبر الأجيال.
ومن القصص المؤثرة في هذا الباب، ما روي عن الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أحد أغنى الصحابة، حين جاءه مال وفير فتصدّق بمُعظمه، فقيل له: "أبقيت لأهلك شيئًا؟" قال: "نعم، أبقيت لهم ما وعد الله من الرزق والخير." كان يُدرك يقينًا أن ما يعطيه لله لا يضيع، بل يعود إليه مضاعفًا في الدنيا والآخرة.
وخلاصة القول، إنَّ العطاء قيمة إنسانية عظمى، من تمثلها انتصر على نفسه أولًا، وذاق طمأنينة الروح ونقاء السريرة. يكفي المرء أن يُقابل الناس ببشاشة وطلاقة، فهي أرقى صور العطاء، وأبسط طريق للسعادة، وهو ليس ما نقدمه للآخرين فقط، بل هو حياة نمنحها لأنفسنا قبل أن نهبها لغيرنا.