سمهرم.. حين يلتقي التاريخ بالأسطورة على ضفاف خور روري

 

 

 

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

 

 

عند ملتقى الجبل بالبحر على شاطئ مدينة طاقة في محافظة ظفار، وعلى بُعد نحو 40 كيلومترًا شرق صلالة، ينساب خور روري كلسان مائي هادئ، محتضنًا أطلال مدينة سمهرم القديمة. هنا كان أحد أهم الموانئ التجارية في عُمان؛ حيث صدَّرت البلاد لبانها العريق إلى معابد الفراعنة وأسواق الصين والرومان ومرافئ الهند والسند. ومن هذا المكان مرّت القوافل قبل أكثر من أربعة آلاف عام محمّلة بخيرات ظفار إلى عرش بلقيس في اليمن.

مدينة سمهرم التي شيدت في القرن الثالث قبل الميلاد واستمرت مزدهرة حتى القرن الخامس الميلادي تمثل أكثر المستوطنات أهمية في فترة ما قبل الإسلام بمحافظة ظفار؛ حيث احتوت المدينة على معبد صغير وبئر ماء ومبان تعود لفترة الاستيطان المبكرة للمدينة أي خلال القرن الثالث قبل الميلاد. ووفقا للمكتشفات الأثرية الكبيرة من قطع حديدية وبرونزية وورش للتعدين، إضافة إلى حصنها المنيع وما احتواه من نقوش وكتابات بخط المسند السائد في المنطقة -آنذاك- هي دلائل على أن المدينة كانت مركزًا بالغ الأهمية بالنسبة للتجارة الداخلية في الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية.

اليوم، يقف الزائر أمام خور روري بين جمال الطبيعة ووقع الأسطورة؛ بين الطيور المهاجرة التي تحلّق فوق مياهه الصافية، وبين صدى الحكايات الشعبية عن سحرةٍ وجنٍّ يتخذون منه مقامًا. ولم يكتف الناس هنا بحكاية التجارة والمجد الغابر لمدينة سمهرم فقط؛ بل أضافوا إلى المكان أساطير تُروى همسًا في الليالي الرطبة. قالوا إن الجن والسحرة يعقدون صفقاتهم في أعماق مياه خور روري، وإن ظلالًا غريبة تعبر سطح الماء ثم تتلاشى في الضباب. ويروي بعضهم أن أصواتًا غامضة تسمع بين أطلال سمهرم، وكأن المدينة لم تندثر؛ بل تحيا في عالم موازٍ. هنا يتجاور التاريخ الموثّق، الذي أدرج الموقع ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، مع الخيال الذي ينساب على ضباب المكان كستارٍ رقيق يخفي أسراره.

ربما ساهم الخراب الذي لحق بمدينة سمهرم بعد مجدها العظيم في ترسيخ هذه الأساطير، إذ لم يجد الناس تفسيرًا أفضل من قوى غيبية سكنت المكان وتحكّمت في مصيره. وهكذا ظل خور روري مزيجًا فريدًا من الحقيقة والأسطورة: ميناءً حقيقيًا حمل ثروة ظفار إلى الدنيا، ومسرحًا غامضًا تتردّد أصداؤه في المخيلة الشعبية. ومن يقف عند أطلال مدينة سمهرم اليوم لا يعرف هل ينظر إلى موقع أثري مُدرج على قائمة التراث العالمي، أم إلى بوابة خفية تؤدي إلى عالم لا يُرى. وفي كلا الحالتين، فإن هذا الكنز الاثري الأبرز في محافظة ظفار يمكن أن يكون مصدر جذب سياحي كبير في المحافظة ووجهة ثرية قابلة للترويج العالمي، خاصة للمهتمين بالثقافة والتاريخ والمغامرين الذين لديهم الفضول لاكتشاف كل ما هو غريب ونادر.

تجدر الإشارة أن موقع خور روري لم يتوقف حضوره عند الماضي البعيد؛ بل جرى مؤخرًا ترميمه جزئيًا وتأهيله كمزار سياحي وجُهز بمتحف ميداني حديث يعرض نماذج من تجارة اللبان وعلاقات عُمان بالعالم القديم، إضافة إلى مسار تراثي يطوف بالزائر بين أروقة المدينة العتيقة، مع مسرح مفتوح ومقهى يستقبل الزوار بوجوه آسيوية وافدة.

لكن الطموح لا يتوقف عند هذا الحد. فالموقع يمتلك مقومات تؤهله ليكون وجهة سياحية متكاملة تجمع بين التاريخ والطبيعة والخيال. وفي هذا المقام نطرح بعض المقترحات التي ربما قد تسند هذا الموقع الحيوي الفريد وترفع من مكانته السياحية والتاريخية وذلك بإضافة عروض ضوئية تفاعلية تروي قصة الميناء وعملية تصدير اللبان، مع إضافة واقع افتراضي يعيد للزائر أجواء مدينة سمهرم القديمة ويتيح له أن يعيش أجواء تلك الحقبة من الزمن. كما إن تقديم جولات ليلية سردية تروي للزوار حكايات السحرة والجن المرتبطة بالمكان قد تضيف نوعًا آخر من السياحة الخيالية شبيهة بأسطورة قلعة دراكولا في رومانيا.

وإذا ما دُعِّم ذلك بمهرجان ثقافي سنوي شتوي يجمع بين الموسيقى الشعبية والقصص التراثية والأنشطة المسرحية، وربط ذلك بمسار تراثي يربط خور روري بمسارات اللبان الأخرى في وادي دوكة، وشصر، والبليد، سيضفي للمحافظة دون شك متنفسًا سياحيًا آخر موازيًا لمهرجان خريف ظفار. كما إن تشجيع إقامة بيوت إيواء سياحية على النمط السائد في المناطق الجبلية من ظفار يمثل ميزة إضافية يستطيع الزائر من خلالها تجربة الحياة في الريف الظفاري عن قرب.

إنَّ تطوير هذه الأفكار سيجعل من خور روري ومدينة سمهرم أكثر من مجرد أطلال تاريخية أو محمية طبيعية؛ بل وجهة سياحية متكاملة تعكس ثراء محافظة ظفار وتنوّعها البيئي والتاريخي والخيالي، وهكذا تبقى سمهرم، بماضيها المجيد وأساطيرها الحيّة، شاهدًا على قدرة المكان العُماني على الجمع بين عبق التاريخ وسحر الطبيعة وروح الخيال.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة