زنجبار.. ذاكرة عُمان في قلب إفريقيا

 

 

 

زاهر بن سيف المسكري

 

حين وطأت قدماي أزقة زنجبار لأول مرة، كان المشهد أكبر من أن تحتمله العيون، وأثقل من أن تصبر عليه الأضلع. تلك الأزقة العتيقة تنبض برائحة اللبان العُماني، والبيوت البيضاء التي بُنيت من الجص العتيق، وذات الأبواب العملاقة الشبيهة بحصن الشباك في علاية إبراء، الذي قصده السلطان قابوس شخصيًا حاملًا آلة التصوير الخاصة به عندما كان مُخيّمًا في سيح اليحمدي أثناء جولاته السنوية المثمرة في مناطق عُمان. (الباب في المتحف الوطني حاليًا) وهو الذي جلبه من منطقة سُرت الهندية قاضي الإمام الشيخ أحمد بن ربيعة الإسماعيلي الحميري، أحد قادة الأسطول العُماني البحري في عهد الإمام سلطان بن سيف الثاني اليعربي. وللباب المهيب توأمٌ مهيب بقلعة الحزم، أعجوبة العمارة العُمانية في الرستاق.

وحين ترى تلك البيوت في زنجبار الأقرب إلى القلاع والمطلة على المحيط الهندي، وترى سككها مثل حمامني (مكان أحواض الحمامات التاريخية) وهروإمزي وفرضاني ودرجاني (الدرج) وماليندي القريبة من فرضاني (الفرضة) بمصطلحات عُمانية قُحّة، فإنها بيوت تهمس بقصص أسلافنا البحّارة الذين شدّوا المدى بصواريهم، فجمعوا بين ضفاف عُمان والساحل الإفريقي برباطٍ من حضارة وإنسانية وتاريخ خالد.

وقد أبدع الشاعر حين قال:

 

إذا أزدية ولدت غلامًا // فبشّرها بملاحٍ مجيد

 

لقد اختطفني المشهد من لحظتي الحاضرة، وألقى بي في أعماق قرون متشابكة وسريعة جدًا، وكأني عدت إلى الماضي. وها أنا ذا أسمع أصوات التجار العُمانيين وهم يساومون في أسواق التوابل، وأرى البحّارة وهم يرفعون الأشرعة متوشحة بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله، طاهرة صافية نقية بلا سيوف) من خلال مدح المفكر السعودي الكبير -رحمه الله- علي الهويريني.

تلك الصواري المُبحرة صوب الهند وشرق آسيا، ومن خلال تعاملات العُمانيين وأخلاقهم دخل في الإسلام أمم. ثم إنهم كانوا يعودون محمّلين بخيرات تلك الأمم وخبراتهم، لينثروها في أرض عُمان وزنجبار، في لقاء حضاراتٍ لم يعرف التعصب طريقًا إليه إلا الحشمة العُمانية الخالصة.

زنجبار لم تكن يومًا مجرد جزيرة؛ بل كانت قلبًا نابضًا بين الشرق والغرب، وإليها عاد أول سفير عُماني في عام 1840 لعُمان في نيويورك بعد مهمته كأول مبعوث، وهو أحمد بن نعمان الكعبي الذي انطلق من مسقط في 17 شوال 1255هـ على السفينة سلطانة (المركب السلطاني المبارك)، والتي ودّعها الإمام والسلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي شخصيًا في 24 ديسمبر 1839م من مسقط. وهو الذي اتخذ من زنجبار عاصمة للإمبراطورية العُمانية، وقد دُفن في مقبرة السادة البوسعيد بزنجبار عام 1856م.

ومن عُمان شكّلت الصواري العُمانية جسرًا عبرت منه القوافل البحرية، وحلقة وصل بين العروبة والشعوب الإفريقية والصينية.

زنجبار في أزقتها، حين تمشي، ترى الكتابة العربية منقوشة على الأبواب العتيقة تناديك لقراءتها ولمسها، وتسمع صوت الأذان الذي ما زال يتردد في مساجدها التي شيّدها أجدادنا، وتشتمّ عبق القرنفل ذي البصمة العُمانية الخالصة، الذي صار عنوانًا للتجارة العالمية في تلك البساتين التي تيتمت من أهلها بسبب ذلك الغزو المنسوج يهوديًا والمختوم بريطانيًا، والمنفَّذ من قبل عصابة خرجت من أوغندا.

أيها الأحبة… دموعي هنا ليست ضعفًا؛ بل شهادة للتاريخ. دموع اجتاحتني وطغت على طوفان نوح، وآلام حريق على أضلعي من هولها وحرارتها رقت لها نيران الخليل عليه السلام زمن النمرود.

أقولها بصدق: لقد تأخرنا على زنجبار، ولكنها ما زالت تنادينا… تنادينا بعروبتها، بإسلامها، وبجذورنا الراسخة في أرضها. ولن يموت تاريخنا فيها مهما عبث التائهون والمنتسبون بأقلام مأجورة إلى تأريخ يستظلون به قسرًا بالدرهم والدينار؟

ولئن كانت بريطانيا الاستعمارية قد صنعت جرحًا غائرًا بمجازر 1964 التي طالت العُمانيين والعرب، فإن وصمة العار ستبقى على جبينها أبد الدهر؛ لأن ما أنجزه العُمانيون في زنجبار من عمران ومساجد ومدارس وتجارات وأساطيل، سيبقى أوضح من أن يطمسه التزوير الاستعماري. لقد شيّد العُمانيون عاصمة زنجبار لتكون عاصمة إمبراطورية خلّاقة تمتد من مسقط حتى أعماق إفريقيا، ومن المحمرة إلى جوادر، ومن سلوى والأحساء والقطيف والدمام؛ لتكون زنجبار عاصمةً للعلم، والأدب، والنهضة، والتواصل الحضاري، عندما لم يكن العالم يعلم عن دول صُنعت حديثًا.

من هنا، من قلب زنجبار عضو هيئة الأمم المتحدة، أقول: يا أهل عُمان، إن بيننا وبين هذه الأرض عهدًا من الروح والدم، فلا تجعلوا الزمن يقطع الحبال.

زنجبار ليست مجرد تاريخ؛ بل وصية للأجيال القادمة لتدرك يقينًا أن العُماني لم يكن يومًا منغلقًا في صحرائه؛ بل كان مبدعًا في البر، وقد أنشأ الأفلاج بأسلوب سحري وسيحها (أسالها) بين داودي وغيلي وعيني للبساتين لتأمين غذائه. وكان البحر توأم البر؛ بل شراعه وجسره مع شعوب العالم ورسائل نور القرآن المعلّقة في أشرعته لتقرأه الشعوب!

إنه العُماني صانع الأمجاد، ناقل النور القرآني المشع حيثما حلّ وارتحل.

لقد اجتمع في زنجبار كل ما يبعث الفخر والحزن في آن واحد: فخر بما أنجزه الأسلاف، وحزن على ما جرى من غزو ومذابح. ومع ذلك، يظل نور عُمان هنا متقدًا بصمت، رغم طمع العطشى للتأريخ. إنه تأريخ يستصرخنا أن نكمل الرسالة، لا بالكراهية، بل بالحكمة والتجديد وفطنة الأخلاق.

وباسم زنجبار.. أيها العُمانيون، يا مقارعي الدول العظمى عبر الزمان، ويا من احتضنت كولورادو الأمريكية نقوشات أول من وطأت أقدامهم القارة الأمريكية، ويا من وثّقت كتب الصين تأريخ وصولهم إليها قبل الميلاد، والشواهد في مقاطعة فوجيان والقرية العُمانية بشهادة الصينيين أنفسهم! ويا من نقشت الحضارة البابلية والمصرية القديمة أشرعتهم ولُبانهم، ويا بني كنعان وأهل صور العفية ورايات الفتوحات بأشرعة الصواري العُمانية، أقول لكم: لقد تأخرتم!

ورغم طول الانتظار، أعلم أنكم ستعودون لحضني لتثبيت روحي وتنشيط دمي وتنفيس صدري… فأنا زنجبار عين، وعُمان عين، وكلا العينين في جبين نور وجه تأريخ عُمان. هيا عجّلوا، ورسالاتي عبر السماء لن تتوقف إليكم. فمتى يستجيب الحُر لاستغاثاتي؟ فلقد اختطفتني من أمي يد الشيطان المتخفي خلف الجُدُر.

نعم، عدونا يحاربنا من خلف الجُدُر، وإنه الشيطان (يهودي يمتطي بغلة اسمها بريطانيا). ليس وصفًا مني، بل القرآن قال ذلك عن رب العزة: إن اليهود لا يحاربونكم إلا من وراء جُدُر! ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: 14].

نعم.. فشركة الهند الشرقية لا تزال حية، وهي جدار، وتمتلكها بريطانيا (البغلة التي هيمن على امتلاكها اليهود)؛ فهي جدار عبثت بالإسلام والمسلمين وإقليمنا العربي وإمبراطورية عُمان، إنما حقدهم من وراء جدار.

واليهود جنود إبليس خلف تلك الجُدُر، والقرآن أفرد لهم من الآيات ما أفرد. بل إنهم هم العدو فاحذروهم! وعلينا اليوم الحذر والتوجس من وجود شركة الهند الشرقية بعناوين أو استثمارات بطرق شتى في عصرنا هذا.

إن هواجسنا مجروحة، وثقتنا في سلطاننا كبيرة. فلقد ائتمناه على الثقة، وندعو له بالعزة في صلواتنا. ولن تضيع ثقتنا ويداه أمينتان؛ فعُمان منبت العقول على مرّ التاريخ، وبأخلاق نالت وسام النبوة من أحمد (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: "لو أنك أتيت أهل عُمان ما سبّوك وما ضربوك". وها هي كتب المستشرقين تصف عُمان وأهلها ببلد الكرم والتسامح.

أنا زنجبار الأسيرة.. حرّروني من قبضته (الشيطان)… بقوة القرآن وأهله؛ فإن رُقى القرآن إذا ما توالت تحرقه، وأذان الصلاة في مساجدي يخفي أثره، والزكاة لمن بقي من بقي من عروق عُمان قوة ومرحمة!

الله أكبر يا تاريخ المجد ببذور عُمانية خالصة مُذ زمن ما بعد طوفان نوح، أهل النبي صالح وآل محمد النبي الأمين.. ولتبقَ الأجيال وقّادة بالهمم تُفجِّر الفخر دومًا بالأخلاق عبر التاريخ.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة