محمد بن علي بن حمد العريمي
في لحظة تاريخية تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية مع الرؤى الاقتصادية بعيدة المدى، تتهيأ سلطنة عُمان وجمهورية الهند لخطوة نوعية ستُسجَّل كإحدى أبرز محطات العلاقات الثنائية بين البلدين، مع اقترابهما من توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA).
ومنذ انطلاق المفاوضات في نوفمبر 2023، أظهرت العاصمتان إرادة سياسية راسخة ورؤية اقتصادية واعية، دفعت عجلة المباحثات بوتيرة غير مألوفة نحو الحسم، حتى جاء أغسطس 2025 ليحمل الإعلان الرسمي عن اكتمال جميع المسارات التفاوضية، ولم يتبقَّ سوى التوقيع وتحديد موعد النفاذ.
إن ما يميز هذه الخطوة ليس فقط ما تحمله من أبعاد تجارية؛ بل ما تجسده من شراكة متوازنة بين دولتين تشكلان ركائز إقليمية كبرى، إحداهما تمتلك موقعًا جغرافيًا استثنائيًا على بوابة مضيق هرمز وقدرة لوجستية وبنية تحتية متطورة، والأخرى قوة اقتصادية آسيوية صاعدة ذات سوق هائل وحضور متنامٍ على الساحة الدولية. وفي الوقت الذي تتعثر فيه مسارات تجارية عالمية وتتصاعد النزاعات الاقتصادية، يبرهن الطرفان على أن الحوار العملي والرؤية المشتركة قادران على صياغة اتفاق يُعيد توجيه مسارات التجارة نحو جنوب آسيا والخليج العربي بأسلوب أكثر استقرارًا وكفاءة.
النص النهائي للاتفاق يخضع حاليًا لمراجعة قانونية دقيقة وترجمة معتمدة إلى اللغة العربية في مسقط؛ استعدادًا لرفعه إلى مجلسيْ الوزراء في كلا البلدين، وهي الخطوة الأخيرة قبل تدشين مرحلة اقتصادية جديدة. كل المؤشرات تدل على أن الإعلان الرسمي بات أقرب من أي وقت مضى، وأننا أمام اتفاق لن يفتح آفاقًا تجارية واستثمارية واسعة فحسب؛ بل سيُعزِّز مكانة مسقط ونيودلهي كمحاور اقتصادية وسياسية لا غنى عنها في المشهد الإقليمي والدولي، ونوضح ذلك عبر عدة نقاط:
أولًا: طبقة السوق والطاقة
تدفقات السلع بين الجانبين تُظهر ترابطًا واضحًا؛ الهند تستورد من عُمان بالأساس: النفط الخام، واليوريا، والغاز، والبوليمرات (البولي بروبيلين/ الإيثيلين)، والجبس، والحديد والصلب، فيما تصدر إلى عُمان: الزيوت الخفيفة، والآلات والمعدات الكهربائية والميكانيكية، والألومينا، والمنتجات الزراعية مثل الأرز وغيرها. بهذا المعنى، فإن خفض الرسوم وتبسيط إجراءات المنشأ سيستهدف سلاسل توريد "حساسة" لقطاعات الهند الزراعية والصناعية، ويضمن لعُمان تعظيم القيمة المضافة في البتروكيماويات والتعدين.
ثانيًا: طبقة الجغرافيا البحرية
إذ تتقدّم موانئ صلالة وصحار والدقم كنقاط ارتكاز لوجيستي بين آسيا وشرق أفريقيا، ومن ثم فإن أي إعفاءات جمركية أو تسهيل في خدمات اللوجستيات والعبور يمكن أن يختصر زمن الوصول لأسواق الهند الغربية على وجه الخصوص، مع تقليل المخاطر عند اضطراب المسارات عبر البحر الأحمر. وهنا، تذكّرنا تغطيات سابقة بأن الهند ترى في اتفاقات ثنائية مركّزة بديلًا براجماتيًا لمفاوضات أوسع نطاقًا تتباطأ إقليميًا.
ثالثًا: طبقة التمويل والاستثمار
ففضلًا عن التجارة، هناك حوالي 6000 مشروع مشترك واستثمارات متبادلة، من أبرزها صندوق عُمان-الهند للاستثمار (OIJIF) الذي أعلن عن شريحة ثالثة بقيمة 300 مليون دولار خلال الزيارة السامية لجلالة السلطان إلى الهند في ديسمبر 2023، وكذلك الشركة العُمانية الهندية للسماد "أوميفكو" (OMIFCO) في ولاية صور بمحافظة جنوب الشرقية، وهي من رموز التكامل الصناعي بين الجانبين. ومع اتفاق تجارة حرّة فعّال، تُصبح حماية الاستثمار وتسوية المنازعات وتسهيل انتقال الخبرات أكثر قابلية للتفعيل.
هذه اللحظة لا يمكن فهمها بمعزل عن الأرقام؛ ففي السنة المالية 2024/2025 تجاوز حجم التجارة الثنائية بين البلدين حاجز الـ10 مليارات دولار؛ حيث صدّرت الهند إلى عُمان ما قيمته حوالي 4.06 مليارات دولار، بينما استوردت من عُمان قرابة 6.55 مليارات دولار، من النفط واليوريا والبوليمرات والجبس والحديد، ما شكّل تحولًا في ميزان التجارة لصالح عُمان، وهو ما تعكسه بيانات التجارة الرسمية وتغطيات الصحافة الاقتصادية الهندية والعُمانية في الأيام الماضية.
وبالرجوع إلى البيانات الختامية لعام 2023/2024، يتضح أن التجارة الثنائية كانت في حدود 8.95 مليار دولار؛ ما يعني أن التبادل التجاري ارتفع بشكل ملموس في العام التالي، مدفوعًا بدرجة كبيرة بوفرة الطلب الهندي على الطاقة والمنتجات الصناعية والدعم الذي حصل عليه الاقتصاد العُماني من ارتفاع أسعار النفط. وفي السياق ذاته، أشارت الإحصاءات الشهرية الحديثة إلى أن كلًا من الصادرات الهندية إلى عُمان والواردات من عُمان شهدتا نموًا سنويًا يبلغ نحو 18% خلال مايو؛ ما يُعزِّز فرضية أن الأسواق بدأت تتهيأ لموجة ما قبل تنفيذ الاتفاق. وبعبارة أخرى، دخلت العلاقات التجارية بالفعل "منطقة تسارع" قبل نفاذ الامتيازات الجمركية، ما يرجّح أن أثر الاتفاق سيكون تعظيميًا لا تعويضيًا.
لا ينفصل هذا المسار عن تدهور المشهد التجاري مع الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة؛ حيث تصاعدت رسوم جمركية أمريكية على الواردات الهندية في سياق صراع أوسع يشمل قضايا الطاقة وعلاقات الهند مع روسيا. ورغم مساعي الطرفين، فإن تصريحات رسمية وإعلامية متواترة تشير إلى أن الاتفاق التجاري الثنائي مع واشنطن تعثّر، وأن نيودلهي تبحث تنويع الشراكات وتحصين سلاسل التوريد عبر صفقات ثنائية سريعة النفاذ، ومن بينها اتفاق عُمان الذي اكتمل تفاوضيًا.
ومع دخول اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند حيز التنفيذ، يُتوقع أن يشهد المشهد التجاري والاستثماري بين البلدين تغييرات جوهرية تمتد من تخفيض الرسوم الجمركية إلى تحسين بيئة الاستثمار والخدمات. فبحسب ما تتداوله الأوساط الاقتصادية والتحليلات، تتجه الصياغات النهائية إلى خفض أو حتى إلغاء الرسوم على معظم السلع، مع الإبقاء على ترتيبات خاصة لبعض المنتجات الحساسة مثل البتروكيماويات والمعادن، وذلك بهدف ضمان توازن السوق وحماية الصناعات المحلية. ورغم أن الجداول التفصيلية لم تُنشر بعد، إلّا أن المبدأ العام يظل واضحًا، وهو فتح أوسع لسلاسل القيمة مع إرساء ضوابط ذكية للسلع التي تتطلب حماية خاصة.
وفي موازاة ذلك، يبرز جانب آخر لا يقل أهمية، وهو قواعد المنشأ ومنع التحايل؛ إذ إن نجاح أي اتفاقية تجارة حرّة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصرامة هذه القواعد التي تمنع إعادة التوجيه أو ما يعرف بـ"الترانشيبمنت Transshipment ".
وفي جانب آخر من أبعاد الاتفاق، من المتوقع أن يمتد تأثيره إلى قطاع الخدمات والاستثمار، عبر الاعتراف المتبادل بالمؤهلات وتسهيل انتقال الكفاءات والمهارات، فضلًا عن وضع آليات فعّالة لتسوية المنازعات وحماية الاستثمارات، وهو ما من شأنه تقليص درجة عدم اليقين القانوني لدى المستثمرين، خاصةً وأن هناك بالفعل رصيدًا استثماريًا قائمًا بين الجانبين، مثل صندوق الاستثمار العُماني- الهندي، ومشاريع صناعية كبرى مثل أوميفكو (OMIFCO) يمكن البناء عليها مباشرة.
ومن حيث المستفيدين، تبدو الصورة واضحة؛ إذ ستجني عُمان مكاسب واسعة في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات بفضل تحسين النفاذ إلى الأسواق الهندية وتعزيز هوامش الربحية، كما ستستفيد صادرات الجبس والحديد والصلب من مسارات أكثر سلاسة لتلبية الطلب المتزايد في قطاع البناء الهندي. وفي المقابل، ستحصل الهند على دفعة تنافسية لصادراتها من الآلات والمعدات والكهربائيات والألومينا، إضافة إلى المنتجات الصيدلانية والأرز، خصوصًا وأن السوق العُماني، يتمتع بقدرة شرائية مرتفعة؛ الأمر الذي يمنح العلامات الهندية ذات الفئات المتوسطة والراقية في الأجهزة المنزلية ومواد البناء منفذًا إقليميًا لتعويض جزء من التباطؤ في أسواق أخرى.
وإلى جانب ذلك، يخلق الاتفاق حوافز ملموسة لإعادة توطين بعض مراحل التصنيع الخفيفة في المناطق الصناعية العُمانية؛ ما يدعم تكوين سلاسل توريد مختلطة تستهدف السوقين في آن واحد. ومن زاوية أخرى، فإن القطاع اللوجستي في عُمان، مدعومًا بالحوافز التي تقدمها المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، قد يصبح نقطة جذب لخدمات القيمة المضافة مثل التغليف والتجميع والاختبار، وهي أنشطة يمكن أن ترتبط مباشرة بالتدفقات التجارية الهندية نحو أسواق شرق أفريقيا، وبذلك يتجاوز أثر الاتفاق حدود التجارة التقليدية ليؤسس لمرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي الإقليمي.
وعلاوة على ما سيُجنى من ثمار فورية من تخفيضات جمركية، وتيسير انسياب السلع، وتعزيز الاستثمارات المشتركة، فإن الأفق المستقبلي يبدو غنيًا بالفرص التي يمكن البناء عليها. ومن المتوقع أن يمتد التعاون إلى مجالات التكنولوجيا المتقدمة، لا سيما الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر؛ حيث تمتلك عُمان إمكانات إنتاجية ضخمة يمكن أن ترفد خطط الهند للتحول الطاقي وخفض الانبعاثات. كما إن قطاع الأمن الغذائي قد يشهد ترتيبات طويلة الأمد، تشمل الاستثمار في سلاسل إمداد زراعية مستدامة، وربما تطوير مزارع حديثة في عُمان لخدمة احتياجات السوق الهندي. وفي مجال التعليم والتدريب، قد يفتح الاعتراف المتبادل بالمؤهلات والبرامج الأكاديمية الباب أمام شراكات جامعية ومراكز بحثية مشتركة، تعزز نقل المعرفة وتطوير الكفاءات. أما قطاع الخدمات الرقمية، فقد يجد في هذه الاتفاقية منصة لتوسيع التعاون في مجالات الحوسبة السحابية والتجارة الإلكترونية والمدفوعات العابرة للحدود، مستفيدًا من البنية التحتية الحديثة في عُمان والقدرات التقنية المتنامية في الهند.
ختامًا.. يمكن القول إن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند ليست مجرد صفقة تجارية آنية؛ بل هي خطوة استراتيجية تفتح آفاقًا أوسع لعلاقات اقتصادية أعمق وأكثر تنوعًا بين البلدين. وإذا ما أحسن الطرفان استثمار هذه اللحظة التاريخية، فإن اتفاقية الشراكة قد تتحول من مجرد اتفاق تجاري إلى إطار شامل للتكامل الاقتصادي، قادر على إعادة رسم ملامح العلاقات الثنائية لعقود قادمة، وإيجاد توازن نادر بين المصالح الوطنية والانفتاح على فرص العولمة.