د. صالح الفهدي
أَثار مقالي الموسوم "دور المجتمع في زيادة نسبة السُّكان" تفاعلًا إيجابيًا بين مكوِّناتٍ مختلفة، على الصعيد الفردي، أو الجماعي عبر مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي، وكان ذلك هو المُرادُ منه، لأنَّه يستهدف المجتمع في صميمه، وإن كانت هُناك أسبابٌ مثبِّطة أو مؤخِّرة للزواج فإِنَّ على المجتمع من جانبه ألا يركنَ إلى أسبابٍ خارجةٍ عن إرادته، ويتغافلُ عن أسبابَ في مِكنتهِ أن يُعالجها بتغيير أعرافٍ سائدةٍ، وعاداتٍ يُفترضُ تغييرها.
وهُنا أُريد أن أبرز رسالة بعثها لي ولي أَمرٍ، لأُقدِّمه كأنموذجٍ حكيمٍ ومسؤولٍ وضعَ الأَمر في كفَّتي ميزان فرجحت كفَّة اليُسرِ والتسهيل عندهُ على كفَّة المهرِ العالي والاشتراطات الطائلة. يقول لي وليُّ الأمر في رسالته التي بعثها لي تعليقا على المقال المذكور: "لقد زوَّجتُ ابنتي منذ فترةٍ قريبة، وحرصتُ على أن يكون المهرُ في حدود قدرات المتقدِّم للزواج دون تحميله شروطًا إضافية أُخرى، ومراعيًا له أشدَّ المراعاة بالرغم أنه كان قادرًا ماليًا على تلبيةِ الشروط -لو كنَّا قد فرضنا شروطًا- والقصدُ من ذلك أن يعيش الزوجان سعيدان دون تنغيص الديون الثقيلة" ويُكمل مبرِّرًا: "نريدُ أن نرى أولادنا متزوجِّين، ولديهم أُسر، إذ لا بد أن يكون لهذا المجتمع امتداد طبيعي، كما قال نبيُّنا الأكرم: "تناكحوا، تكاثروا فإنني مباهٍ بكم الأُمم يوم القيامة"، فإذا شاخ المجتمع فمن يحملُ الراية، حين يزيد عدد الوافدين على المواطنين، ولهذا لا بد من حملة وطنية للقضاء على ظاهرة المباهاةِ والمظاهر التي لا طائل من ورائها سوى أنها تعيق الزواج، ولا بد من كل حكيمٍ ورشيد في المجتمع أن يقومُ بدوره في هذه التوعية الاجتماعية".
هذه الرسالة جاءت من وليِّ أمرٍ يُدرك قيمة المسؤولية، ومعنى الواجب، إذ هو يعلمُ ما يترتَّبُ على زيادة المهور، وقائمة الشروط التي لا تعدُّ ولا تُحصى، والمصاريف الباهظة التي يتكبَّدها المُقدِمُ على الزواج. وللأسف فإنَّ بعض الناس لا تُدركُ أن بعض العادات ليست صحيحة، ولكنَّهم مع ذلك يحرصون عليها رغم تكبُّدهم الأعباء المادية الثقيلة. أخبرني أحد المسؤولين الرفعين بأنَّه أقامَ عقد قران ابنه في مجلس بيتهِ بحضورٍ اقتصرَ على مجموعةٍ من المدعوين، وبكلِّ هدوءٍ وراحة. وكان يقصدُ من وراءِ ذلك أن يوصلَ رسالة إلى المجتمع، بأنَّه على قدرته المادية، وعلى ما يملك من علاقات رفيعة، لكنَّه مع ذلك آثر الاقتصار على مراسمَ محدودة يُقضى فيها الغرض، ويتحقق منها الهدف الشرعي.
كتبت لي إحدى الأُمهات تعليقا على المقال معبِّرةً عن رأيها في معرضِ الحديثِ عن انكماش نسبة المواليد في المجتمع العُماني: "هذا كُلُّه من غلاء المهور، وارتفاع نسبة الطلاق، وعزوف الشباب عن الزواج بسبب الشروط التعجيزية من بعض أولياء الأمور والبنات وأسباب أخرى مثل عمل المرأة؛ فإنَّ المرأة العاملة لا تحبذ الإنجاب لأكثر من طفلين لأنها تتركهم وتذهب للعمل وهذه بعض مسببات هذا التحوُّل".
وإنني لأرى بأنَّه وعلى توازٍ مع تكليف المحافظين لاتخاذ الخطوات التنفيذية نحو وضع الأوامر السامية الكريمة الصادرة من جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- بتفعيل عمل صناديق دعم الزواج في المحافظات موضع التنفيذ، فإنَّ على المجتمع أن يقومَ هو بواجبه الديني والوطني إزاء أمر الاستخلاف في الأرض من خلال تكوين الأُسرة والنسل الممتد. ولو أنَّ ولايةً واحدةً في السلطنة قدَّمت نفسها كأنموذج لوضع حدودٍ ميسَّرة للزواج موضع التنفيذ فيها لتبعتها جميع الولايات الأخرى اقتداءً بمبادرتها الاجتماعية الفاضلة. وقد يكون ذلك بتشجيعٍ من المحافظين في حملةٍ وطنيةٍ ذات منطلقٍ عمليٍّ واضح.
يتبقَّى توضيح أَمرٍ حول المقال الآنف الذكر ظنَّ البعضُ أنني غفلتُ عنه أو تغافلت، وهو ما يتعلَّق بأهمية توظيف العدد الكبيرِ من الباحثين عن العمل من أجلِ بدءِ الاستقرار، وإنشاءِ مكوَّن الأُسرة، ولم أكن غافلًا أو متغافلًا عن ركنٍ من أركانِ الاستقرار النفسي والاجتماعي وهو العمل، فذلك ركنٌ لا يستقيم الزواج دونه، بيدَ أنني ركَّزتُ في المقال عن الدور الاجتماعي في تيسير الزواج، وبالتالي زيادة النسبة السكانية، إذ إن كثيرًا من الشباب العاملين يجدون مشقَّةً بالغةً في مواجهة مصاريف الزواج بدءًا من المهر وتبعات الزواج، ثم تحمُّل الديون لسنين طويلة، مما قد يهدد مشروع الزواج بأكمله، أو تكتنفه ضوائق مالية دائمة.
علينا جميعا أن نقوم بأدوارنا، سواءً في توفيرِ الوظائف، أو تسهيل أمور الزواج، أو الاستقرار السكني لجيلٍ يمرُّ بمنعطفاتٍ حادَّة، وهذا واجبٌ وطنيُّ من أنبل وأقدس الواجبات التي تزول فيها المصالح الشخصية لصالح المصلحة الوطنية العُليا، وكلُّنا مسؤولون عن هذا الواجب، فيجب أن نقوم به، مصحِّحين ومراجعين لكل ما يحتاجُ إلى تصحيح ومراجعة من سياسات أو أعراف أو تقاليد حتى نضع قاطرة المجتمع في السكة الصحيحة لتحقيق ممكنات ومستهدفات الرؤية الوطنية المنشودة.