محمد أنور البلوشي
تُشاد الرأسمالية في أغلب الأحيان بوصفها النظام الاقتصادي الأكثر كفاءةً في تحفيز النمو والابتكار، ولا شك أنها شكّلت المجتمعات الحديثة بطرق متعددة. لكن، حين نزيل ذلك اللمعان الخارجي، تظهر لنا حقيقة أكثر ظلمة، خاصة في قطاعات كالتعليم، التي يفترض بها أن تحتضن الإمكانات البشرية لا أن تحولها إلى سلع تُباع وتُشترى.
في سلطنة عمان، بدأت ظاهرة مقلقة بالظهور في مؤسسات التعليم العالي. قالت إحدى الأكاديميات العمانيات من إحدى الكليات المرموقة، وصوتها يرتعش ودموعها تملأ عينيها: "لم يتم تجديد عقدي. كيف سأعيش؟ كيف سأدفع أقساط البنك الشهرية؟".
هذه القصة ليست حالة فردية، بل تتردد أصداؤها في ممرات العديد من الكليات في مختلف أنحاء البلاد.
كيف وصلنا إلى هذه المرحلة التي يُعامل فيها الأساتذة، مهندسو أجيال المستقبل، كسلع مؤقتة بدلًا من اعتبارهم ركائز أساسية في تنمية الوطن؟ المفارقة قاسية: نحن نُشيد بأهمية التعليم، وفي نفس الوقت نقوض مكانة من يقومون به ويجعلونه واقعًا.
يرى كارل ماركس، أحد أبرز نقّاد الرأسمالية، أن العمال في هذا النظام يتحولون إلى مجرد تروس في آلة، مغتربين عن عملهم، وتحت رحمة قوى السوق المتقلبة. في التعليم، لم يعد الأكاديمي مرشدًا موجهًا للشباب، بل أصبح عاملًا موسميًا يُقاس قيمته بعدد الطلبة المسجلين والتكاليف المخفّضة.
قال أحد المحاضرين العمانيين الشباب: "بعد أن عملت بكل جهد طوال فصل دراسي، أخبروني أنني لن أُجدد في الفصل القادم. شعرت أنني قطعة يمكن استئجارها ثم التخلص منها". كلماته ثقيلة، تكشف عن العبء النفسي والعاطفي للعقود الأكاديمية الهشة.
المشكلة الجوهرية تكمن في تسرّب القيم الرأسمالية إلى التعليم. فقد تبنت الجامعات والكليات عقلية الشركات، تركّز على تقليل التكاليف، وتعظيم الأرباح، والترتيب في التصنيفات، وغالباً على حساب رسالتها الأساسية: نشر المعرفة وصقل العقول.
يرى المفكر التربوي هنري أ. جيروكس أنه عندما تتبنى المؤسسات التعليمية نماذج الأعمال التجارية، فإنها تفقد دورها كمساحات للنقد والتفكير الحر، وتتحول إلى "مصانع تدريب" تنتج عمالًا مطيعين للسوق. في عُمان، يشعر الأكاديميون العمانيون بهذا بشدة حين يُعرض عليهم عقود قصيرة الأجل بلا أمان وظيفي، مما يخلق مناخًا من الخوف وعدم اليقين.
علاوة على ذلك، فإن هذه الممارسات تتعارض مع رؤية "عُمان 2040" التي تؤكد تمكين الكفاءات العمانية وبناء اقتصاد قائم على المعرفة. فكيف نبني مجتمعًا مبتكرًا وقويًا إذا لم نؤمن أولًا كرامة وأمن من يعلّم أجيالنا؟
قد يجادل البعض بأن العقود قصيرة الأجل تمنح المؤسسات مرونة. لكن هذه "المرونة" المزعومة تعني في الحقيقة هشاشة للأكاديميين، وتجبرهم على التركيز على البقاء بدلًا من الإبداع والمخاطرة الفكرية. وعلى المدى البعيد، يضعف هذا جودة التعليم التي يحصل عليها الطلبة، ويهدم البنية التعليمية بأكملها.
قال أستاذ مخضرم: "نقضي وقتنا في القلق بشأن تجديد عقودنا أكثر من تحسين التدريس أو البحث العلمي. نشعر وكأننا نمشي على حبل مشدود كل يوم".
النتائج لا تتوقف عند حدود الأستاذ، بل تتجاوز ذلك إلى الطلبة الذين يشعرون بقلق أساتذتهم المؤقتين، مما يضعف الثقة ويقلل من جودة تجربتهم التعليمية. في الوقت نفسه، تخسر المجتمعات نماذج يحتذى بها يمكن أن تلهم أجيال المستقبل لخوض غمار البحث والعلم.
علينا، كمجتمع، أن نسأل أنفسنا: ما الرسالة التي نرسلها لطلابنا عندما يرون معلميهم يُعاملون وكأنهم قابلون للاستبدال؟ هل نُعزز احترام المعرفة أم نعلمهم تقديس المكاسب اللحظية على حساب الأثر البعيد؟
لمواجهة هذا، يجب على كليات عُمان والمنطقة بأكملها إعادة تقييم ممارسات التوظيف لديها. تقديم عقود أطول الأمد وفرص تطوير مهني حقيقية لا يُمكّن الأكاديميين العمانيين فحسب، بل يُظهر التزامًا حقيقيًا تجاه التميز التعليمي.
علاوة على ذلك، يجب أن يتذكر صناع السياسات والقادة التربويون أن التنمية الاقتصادية لا ينبغي أن تكون على حساب الكرامة الإنسانية. فالثروة الحقيقية لأي أمة لا تكمن في احتياطاتها النفطية أو أبراجها العالية، بل في عقول وقلوب شعبها.
إذا استمررنا في معاملة المعلمين كأصول قابلة للتخلص منها، فإننا نخاطر ليس فقط بمعيشة الأفراد، بل بمستقبل الوطن بأسره.
وفي الختام، دعونا نقف متضامنين مع الأكاديميين العمانيين. لنجدد الدعوة إلى نظام يقدّر مساهماتهم، ويدعم تطورهم، ويحترم إنسانيتهم. حينها فقط، يمكننا الادعاء حقاً أننا نؤمن بقوة التعليم التحويلية.