الواقعية.. أساس ومساس!

يوسف عوض العازمي

" عندما تقارن مآسي الحياة الواقعية بالحياة الخيالية، لن ترغب في عيش الواقع مرة أخرى، سوف تتمنى لو أنك تستطيع أن تستغرق في الأحلام للأبد "

(ألكسندر دوما)

 

أحيانا" أتفكر في حال وأحوال الكاتب وكتاباته، طبعا" لا أقصد كاتب العرائض أو كاتب التوقيع للدوام، أو حتى كاتب الحسابات الختامية لشركة استثمار، بل كاتب صحفي يكتب في زاوية قد تكون مقروءة ولها الزخم العالي، وضوضاء التأثير، أو زاوية من اسمها "زاوية" بعيدة ومهمشة وربما "تكملة عدد!".

 

في الحقيقة لا يوجد كاتب ليس له معنى وحبكة وسبك في الكتابة، قد تقرأ المقال وتحسبه "عاديا" ممن يمر مرور الكرام لكنه كما قال الشعراء: المعنى في قلب الشاعر!

 

على ذكر الشعراء أعتقد جازما بأن الكاتب والشاعر هما في الحقيقة بمركب واحد، ولأقنعك هل تتذكر العصر الجاهلي وما بعده من صدر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين ومن ثم الدولة الأموية والعباسية ومتتابعاتها من الدول حتى وصولنا لعصرنا، منذ تلك الأيام هل كانت هناك صحف وجرائد، وحتى كتب ومنشورات، بالطبع لا، كان سيد الساحة وقتها هو الشاعر، كان الشاعر هو وزارة إعلام كاملة متكاملة لقبيلته أو منظومته الاجتماعية، أبيات الشعر كانت تسير بها الركبان، ولن أضع لك أمثلة، توجد معك محركات البحث أدخلها، واسأل عن قصة قصيدة :

 

ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا . .

 

للشاعر عمرو بن كلثوم، أو غيره من شعراء تلك الحقب التاريخية، وقتذاك هل كانت تصدر صحف أو قنوات فضائية أو وسائل تواصل، طبعا "أختزل كل شيء في الشاعر، ويا سلام لو شاهدت شاعرا" في ذاك الوقت تصور لو رأيت عمرو بن كلثوم أو زهير بن أبي سلمى هل ستراهم يسيرون لوحدهم في الشارع (طبعا لم تكن ثمة شوارع كشوارع هذا الزمن لكنه تصور كاتب والكاتب معذور!) تخيل معي لو أن الأعشى يسير لوحده في السوق هل سيلتم حوله المعجبون ويطلبون توقيعه أو حتى صورة سيلفي معه؟

 

الشاعر وقتذاك كان هو شاغل الدنيا والناس، كان عندما ترى المتنبي كأنك تتحدث عن شيء كبير، وهو شيء كبير بالفعل، على ذكر المتنبي تذكرته أمس، ومن الممكن أن تبتسم وأنت تقرأ هذه الكلمات، وتحسبني أشمت أو أستهزئ، لا والله لكني استغربت، أتدري لماذا، سمعت أن هناك محلا تجاريا شهيرا يبيع المواد الاستهلاكية اسمه "كافور الإخشيدي "!

وتذكرت أبيات المتنبي وأشعاره

 

من أية الطرق يأتي نحوك الكرم؟

أين المحاجم يا كافور والجَلَمُ؟

 

الآن سأسألك هل تعتقد أن الكاتب يؤدي دور الشاعر في تلك الأزمان، قد ترد وتقول حتى الآن ثمة شعراء، صحيح لكن أيضا يزاحمهم الكتاب، في العصور السابقة لم يكن هناك كتاب رأي ولا جمعية الصحفيين، كان يوجد شعراء، وأي شعراء..

وأنا أكتب هذه الكلمات التي لا أعلم هل ستنشر أم لا، تذكرت أني قرأت في النشرات الإعلامية أمس أن وزير الدفاع الباكستاني قد صرح وهو في قمة السعادة بأن باكستان انتصرت في الحرب، يقصد بالتأكيد المزاح الخفيف الذي جرى بين الهند وباكستان قبل أيام، ابتسمت بعد تصريحه، وتذكرت أن صدام حسين أعلن وأقام الاحتفالات بانتصاره في "أم المعارك"، وحزب الله كبَّد الصهاينة خسائر ضخمة وهزائم ثقيلة، والفرس احتفلوا بالانتصار في حرب الاثنا عشر يوما مع الصهاينة، والأخبار أحيانا يختلط جدها مع هزلها!

الفكر الإنساني متعجرف نوما ما، متواضع في أحيان، يبهرنا بالإبداع في غير الوقت المطلوب، وتتناقص إبداعاته أمام زخم راسخ يتوشح بحقوق الإنسان عندما يقتل أهل غزة، حيث يشجب ويستنكر، ثم تجد حامل الفكر بنفسه يتوجه لتناول وجبة ماك تشيكن !

أذكر قبل سنوات درست في إحدى مواد العلوم السياسية أن الواقعية هي الأساس التي تقوم عليها الدول، ومن يلعب فهو لا شك يلعب على نفسه، وإن أفشل سياسة هي سياسة: اكذب اكذب حتى يصدقك الناس، وهي لا تصلح حتى لإدارة عمل عصابة مافيا !

 

كتبت أكثر من مرة بأن الصدق مع الذات، والتقدير الحقيقي للموقف هو حبل نجاة قد يؤدي لدراسة واقعية للوضع لوضع خطط واستراتيجيات مستقبلية تساعد على النهوض وإدارة التحديات كما يجب، أما العكس فهو ضحك على النفس لا أكثر، وهنا أتذكر الرئيس جمال عبدالناصر بعد نكسة 67 ، واعترافه بالهزيمة وتحمله المسؤولية كاملة وتقديم الاستقالة في مشهد ملئ بالاحترام للشعب وللأمة، وماذا حدث من ردة فعل للجماهير بعدها، وكيف أسست هذه الشفافية لما حدث في انتصار أكتوبر 73 ، الذي لولا التأسيس الصادق لما حدث حيث اجتمعت إرادة الرجال مع حكمة القيادة وتحقق ما لم يتم تصوره .

قبل كتابة هذا المقال قلت لأحد الأحبه بأني سأكتب مقالا" خفيفا"، فهل تظنه مقالا" خفيفا"؟

أنت وضميرك!

الأكثر قراءة