محمد بن رامس الرواس
منذ أكثر من تسعين يومًا يخضع قطاع غزة بكامله لحصار الكيان الإسرائيلي الخانق الذي تُستخدم فيه سياسة التجويع كسلاح جماعي لكسر إرادة الشعب الفلسطيني، لم يكتف الاحتلال بالقصف والدمار؛ بل أغلق المعابر ومنع دخول الغذاء والماء والوقود ليحوّل القطاع إلى محرقة إنسانية صامتة، ومع ذلك كما يحدث في كل مرة خابت حسابات الكيان الإسرائيلي أمام شعبٍ لا ينكسر.
ووفقًا لتقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإنَّ أكثر من 2.2 مليون فلسطيني في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأغلبهم مهددون بالمجاعة الفعلية، بينما أكدت منظمة الصحة العالمية أنَّ القطاع الصحي في غزة انهار فعليًا وأن معظم مستشفيات قطاع غزة خرجت عن الخدمة، وأن ما تبقى يعمل بوقود وموارد شبه منعدمة.
أما صندوق الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف فحذّر من أن أكثر من 90% من أطفال غزة لا يحصلون على الحد الأدنى من الغذاء اليومي ويعانون من مظاهر سوء تغذية حاد كالضمور وفقر الدم والجفاف في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث.
وفي ظل هذا الجحيم ظل الفلسطيني صامدا أمام هذه المجاعة التي لم توثر على صموده وكرامته وحبه لوطنه. وبعد 90 يوم وطفي مشهد يليق بأُناس ليسوا من هذا الزمن؛ بل من زمن المجاهدين الأوائل. فقد رأينا العائلات تتقاسم كسرة الخبز كما تتقاسم شربة الماء وتضرع بالدعاء لله في طوابير الخبز، كما يتضرع الجنود في المتاريس طلبًا للنصر من المولى عز وجل. بينما المرأة الفلسطينية كانت ولا تزال عنوانًا للصلابة تطبخ ما تبقى من العدس على نار الحطب وتغسل قلوب أولادها بالحكايات لا بالماء.
أما عن المجتمع الدولي، فالغالبية صامتة ولم يتبق من ماء وجه المجتمع الدولي سوى بيانات خجولة أو دعوات للتهدئة لا تغني شيئًا أمام أجساد تتآكل وأرواح تصعد إلى بارئها بصمت. أفادت منظمة هيومن رايتس ووتش ووصفت الحصار بأنه "شكل من أشكال العقاب الجماعي المحرّم بموجب القانون الدولي"، ودعت إلى رفعه فورًا مؤكدة أن "استخدام الجوع كسلاح حرب يرقى إلى جريمة حرب".
وفي قلب هذه الظلمة يتضرع قطاع غزة، نعم يتضرع رغم الدمار متوشحًا بالكرامة والعزة منتظرا الفرج من المولى عزوجل. تسعون يومًا من الجوع لم تُسقط راية ولم تسرق ابتسامة الطفل ولا صوت الأذان من مآذن غزة العزة، فهنا الكرامة لا تُقايض بطعام والحرية كما يقول الشرفاء فالكرامة لا تُشترى؛ بل تُنتزع، مهما طال الليل.
فقد تحوّل الجوع في غزة إلى شكل من أشكال المقاومة الصامتة، المقاومة التي لا يراها الإعلام ولا تُوثقها الكاميرات، لكنها الأصدق أثرًا. والأبلغ دلالة أن هذا الشعب لا يُهزم، لا بالرصاص، ولا بالحصار، ولا بالجوع؛ بل سينتصر بإذن الله بالصمود.