عُمان.. دولة لا تعرف الصخب!

 

 

عباس المسكري

 

ليست عُمان دولة محاور صاخبة؛ بل دولة مفاهيم راسخة، وسياستها الخارجية لا تقوم على ردود الفعل المتسرعة؛ بل على إستراتيجية تعتمد الصبر، والانكفاء الذكي، والمناورة الهادئة، والمثير للانتباه أن هذا الحضور المتميز في لحظات التوتر لا يعكس حيادًا ساذجًا، بل حيادًا واعيًا، مبنيًا على فهم عميق لتعقيدات القوى المتفاعلة في المنطقة.
على مر العقود، بنتْ عُمان شبكة علاقات تتجاوز الخلافات المؤقتة، فهي تتواصل مع أطراف متنوعة دون استفزاز أحد على حساب آخر، وتستضيف وفودًا من تيارات مختلفة دون الاصطدام بمصالح الآخرين، وتدير قنوات حوار خلفية دون مزايدات.
إنها الدبلوماسية حين تصبح فنًا راقيًا، لا مجرد تبادل مواقف، وفي اتفاق لتهدئة العاصفة، ووسط ضجيج التصعيد في البحر الأحمر، جاء اتفاق مفاجئ برعاية عُمانية كنسمة نادرة تخترق جدار التوتر. الاتفاق نصّ على وقف هجمات جماعة أنصار الله (الحوثي) على السفن الأمريكية، مقابل تعليق الضربات الجوية الأمريكية داخل الأراضي اليمنية، ورغم أن الاتفاق لم يشمل كل جوانب الصراع، إلا أنه حمل طابعًا عمليًا مهمًا، تقليص التصعيد بدلًا من انتظار الانفجار.
لأشهر، تحوّل البحر الأحمر إلى فضاء مشتعل؛ حيث تبادلت الأطراف رسائلها النارية، وتأثرت سلاسل الإمداد، وأُعيدت صياغة الحسابات الجيوسياسية، وأصبحت الملاحة التجارية رهينة قرارات ميدانية، وحُوّل الممر المائي إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين أطراف لا تتنازل عن مصالحها الإستراتيجية. هذه المنطقة، التي كانت شريانًا للتجارة العالمية، باتت مسرحًا لتصفية حسابات سياسية وعسكرية. ورغم أن الاتفاق الحالي لا يحل الأزمة بالكامل، إلا أنه خطوة نحو استعادة التوازن، ويمنح هذا التفاهم فرصة للعقل السياسي ليبرز وسط المواجهات، ويعيد الاعتبار للدبلوماسية في مشهد يغلب عليه الانفعال.
العقل، حين يُمنح فرصة، يمكنه قيادة اللعبة قبل أن تسيطر الأسلحة بالكامل، وها هي عُمان تصوغ التوازن من الهامش. فنجاح مسقط في جمع أطراف النزاع على طاولة التهدئة لم يكن مجرد وساطة عابرة، بل تجسيد لأسلوبها الفريد في صناعة السياسة، فمسقط لا تلعب على المسرح، بل تعمل خلف الكواليس، وحين تتحرك، تُحدث تأثيرًا يُربك اللاعبين. والأهم أن عُمان لا تنطلق من منطق الوساطة المجردة، بل من إدراك عميق لاحتياجات المنطقة، تهدئة تكتيكية تمهّد لتحولات أوسع. وفي خضم الأزمات المحيطة، استطاعت عُمان أن تفرض نفسها كقوة ضاغطة، ليس في مواجهة الآخرين؛ بل في مواجهة الوقت، مستغلة الحكمة والدراية لفتح مسارات جديدة ودفع الحوار إلى الأمام.
هل يكون الاتفاق بداية لمسار أوسع؟
رغم هشاشة التفاهم، إلا أن نجاحه، ولو مؤقتًا، يفتح الباب أمام فكرة أكبر: أن المنطقة لم تفقد بوصلتها تمامًا. فالإرادة السياسية، حين تتلاقى مع أطراف عقلانية، قادرة على انتزاع فرص حوار من بين ركام الصراع. فهذا الاتفاق، رغم محدوديته، قد يكون نقطة انطلاق لتفاهمات أشمل، تقطع الطريق على العنف المستمر. وقد لا يكون هناك مجال اليوم لمفاوضات كبرى تُفضي إلى سلام شامل، لكننا ربما نشهد فجرًا للحلول الجزئية التي تشق طريقها ببطء نحو تسوية ممكنة.
إنها سياسة التواضع وقوة الصمت، حين تختار دولة مثل عُمان ألّا تتحدث كثيرًا، لكنها تقول الكلمة الحاسمة في الوقت المناسب. فهذا ليس ضعفًا، بل قوة في الموقف، وفي مشهد إقليمي يميل إلى فقدان التوازن لصالح الطموحات الجامحة، تظل مسقط شاهدة على أن الاتزان ليس رفاهية؛ بل ضرورة إستراتيجية. وإن صوت الحكمة، مهما بدا خافتًا، قادر على تغيير ما لا تستطيع طبول الحرب تغييره.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة