مسعود أحمد بيت سعيد
يُقال إن أوجياس، ملك إلِيديا، كانت إسطبلاته مليئة بالخيول والمواشي، وقد ظلت لسنوات طويلة تنفث روائحها الكريهة في المدينة؛ مما تسبب في انتشار الأمراض والأوبئة.
وارتفعت أصوات السكان احتجاجًا على هذا الوضع، ولما كان من الصعب عليه حل المشكلة بما يتناسب مع حجم الاستياء الذي عمَّ المدينة، عرض على أحد معاونيه مهمة تنظيفها مقابل جزء من تلك المواشي والخيول. وقد قام بتنظيفها في يوم واحد، وذلك بتحويل مجرى النهر إليها، كما تقول الرواية.
تُعد هذه الأسطورة القديمة نموذجًا ما زال مستمرًا في العصور اللاحقة، وقد كتب عنها الكثير تحت العنوان ذاته، وتمت مقاربتها من زوايا مختلفة. وعادةً ما يُستدعى بُعدها الرمزي لإسقاطه على وقائع الحياة الجديدة، لما تحمله من مضامين وأبعاد تستحق التأمل في عمق مدلولاتها. ومن هذه الدلالات: أن الملك قد استجاب للإرادة الشعبية، غير أنه لم يستطع تلبيتها دون أن يُضحِّي بجزء من ثروته الحيوانية. ومنها أيضًا أن من أُوكلت إليه المهمة لجأ إلى حلول سريعة وغير متوقعة، وبلغة عصرنا "ثورية".
ومنذ تلك اللحظة، استقر في أذهان العامة أن الملك يمتلك قدرات خارقة، وأنه يستطيع- حين يمتلك الإرادة- أن يجد السبل المناسبة لمعالجة معضلات الواقع، وأن إمكانات التغيير ليست مُستعصية. ومن يومها، يُستخدم هذا المصطلح كناية عن تراكم الأوساخ، أو عن الحد الأقصى من الإهمال والفوضى. ويرى البعض أن تأويل هذه الواقعة في ضوء الواقع الجديد يعكس- من أحد جوانبها- مدى الحاجة إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وقد كان القدماء- كما تقول الكتابات القديمة- على قدر كبير من الإرادة والحكمة، وكان استشفافهم للنفسية الاجتماعية حادًا؛ إذ لم يُقيِّدوا أنفسهم بوسيلة محددة في عمليات الإصلاح. وكان لكل منهم رؤيته الخاصة لتنظيف إسطبلاته، ورفع شأنه، وتحسين صورته أمام مواطني مملكته. وقد اعتبروا- آنذاك- من النواقص تكرار تجارب الآخرين؛ باعتبار أن ذلك- من وجهة نظرهم- ينمّ عن قصر النظر وفقدان الحيلة.
لذلك، لم يكن مُستغربًا أن يُسمِّي ملوك الإغريق الشهور بأسمائهم الخاصة، وأن يضيف كلٌّ منهم يومًا إلى عدد أيام الشهر الذي سبقه، ربما لرغبةٍ في التمايز والاختلاف، وهي فطرة مغروسة في الإنسان، لكنها أيضًا وسيلة سياسية وقائية ذكية، تتعاظم لدى الحكام الذين تكون أفعالهم مرئية للعامة، والذين يحرصون على ترك بصمتهم في التاريخ. ويُقال أيضًا إن ميكافيلي، بعد أن خبر أسرار الحكم وكواليسه الضيقة، وضع كتابه الشهير في علم السياسة، الذي قدّم فيه نصيحته لإنقاذ الحكام من مساوئ "إسطبلاتهم" وترسيخ حكمهم. وعندما وضع المبدأ المعروف "الغاية تُبرِّر الوسيلة"، لم يكن يقصد سوى ضرب تلك القُدسية التي تُحاط بها البطانة، والتي يسجلها التاريخ في صفحاته على أنها غير مُنزَّهة عن الأهواء والرغبات والأحقاد. ويُعزى انهيار معظم الممالك وحتى الإمبراطوريات الكبرى- بحسب من درسوا التجارب البشرية- إلى تلك الحواشي التي- لدواعٍ ذاتية- تتستر على النواقص، حتى تتآكل هياكل الإمبراطوريات وتتفكك من الداخل.
وبعد التطورات العاصفة في البيئات الاجتماعية، والصراعات التي خيضت عبر الأزمنة للاستفراد بمفاتيح خزائن المال وامتلاك وسائل الغايات، وما نتج عنها من مآسٍ وكوارث اجتماعية واقتصادية على مرّ العصور، لم تعد المهمة بتلك البساطة. ولو أُنيط بمن قام بتنظيف إسطبلات أوجياس قديمًا أن يؤدي ذات المهمة في العصر الراهن، لتعذر عليه إنجاز ما أنجزه حينها، وربما يستنكف عن تأدية تلك المهمة المعقدة.
غير أنه- نظرًا لما يتمتع به من فطنة- لن يعدم الوسيلة، وقد يضطر للاستعانة بمن عصرتهم تجارب الحياة القاسية على مدى عقود طويلة، واكتسبوا خبرات من واقع حياتهم وبؤسهم، وهم القادرون على صنع المعجزات، كما صنعوا بسواعدهم وأدمغتهم حدائق بابل وأهرامات الجيزة، ويصنعون اليوم علوم التكنولوجيا والثورة الرقمية الجديدة، والذكاء الاصطناعي الذي يكشف أسرار النفس، ومسارات التفكير، وبواعثها الخفية. ناهيك عن مواقع الإسطبلات التي كانت، في الماضي، محصورة المعرفة بسكان مملكة إلِيديا الصغيرة.