علي بن سالم كفيتان
تمنيت أن يدعم العرب الصمود الأسطوري في غزة ويسجلوا لأنفسهم صفحة عز في سجل التاريخ لكنهم أَبُوا، ولا شك أن العرب يبكون على غزة ليل نهار دون أن تنزل دمعة من عيونهم الشاخصة إلى الغرب، وما سوف يفعلون بهم لو أبدوا تعاطفًا حقيقيًا على كل هذا الألم الذي يقع على أرض فلسطين؛ فلم تعد هناك مُبادرات عنترية لقذف المساعدات من السماء، ولم نعد نسمع هتافات الشعوب في الشوارع "هذا يكفي يا قادة"، لقد أنهكوهم حتى أصبحوا يحبون خلفهم بحثًا عن رغيف الخبز.
إنَّ إفقار الشعوب حول العالم والاستيلاء على مقدرات الأوطان والتهديد بسطوة القمع ولَّد شعوبًا ضعيفة لا تقوى على القول "لا.. هذا يكفي"، فباتوا يقتاتون على فتات الأنظمة الظالمة وما لفظه الغرب من قاذورات الرأسمالية المقيتة، لهذا خفت صوت الحرية في عالمنا العربي وتم تدجين الناس وإرضاعهم حليب الذل والهوان، حتى باتوا لا يُنكرون الباطل خوفًا من بطش الغرب من جهة، وأنظمتهم المُتجبِّرة من جهة أخرى؛ لهذا باتت غزة مُحاصَرة مُدمَّرة تُحارب وحدها طاغوت الأرض وجبروتها. سلاح أمريكي وأوروبي وتخاذل عربي وتجبُّر صهيوني لا يعرف إلى الإنسانية طريقًا، لهذا جفَّت حتى أقلامنا واستحينا في أحيان كثيرة مما نكتب، وسط هذا التخاذل. وكم تساءلنا: هل ما نكتبه عن غزة وعن فلسطين يُشكِّل تأثيرًا أم أنه مجرد كلمات على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي؟
رغم الألم والجحود، لا يزال الغزيُّون منغرسين في تراب فلسطين الطاهر غير آبهين بالفقد والدمار؛ فلم تعد هناك دولة عربية قادرة على وقف المجازر. وقد تعود أبناء غزة على خذلاننا لهم، ولهذا لم تعد تسأل النساء وهن يطفن من مخيم إلى آخر ومن قرية إلى أخرى تحت تهديدات الصهاينة وتهجيرهم اليومي الذي لا ينتهي عن أي دور لدولة أو زعيم، لقد آثرن الصمت على الاستغاثة، يُلملِمن بقايا الثياب المثقوبة، وفُتات الطعام المعدوم، يمشين دون هوادة على أرض فلسطين السليبة، لم تعد العيون تمتلك ما يكفي من الدموع، ولا الحناجر يمدها الصوت للتعبير عن الألم؛ فكُل ما تبقى هي نفوس تتزاحم في طريقها إلى السماء، لتلوذ ببارئها من ظُلم الإخوان وجور الأعداء وتنكيلهم، ولم تعد تهزُّنا الأرقام ولا يهولنا حجم الدمار، لقد عدنا إلى حياتنا وكأنَّ شيئًا لم يُكن. لقد اشترط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أخذ غزة بعد تنفيذ التطهير العرقي، مُقابل قيمة السلاح والدعم الأمريكي لإسرائيل، وبات يُخطِّط لبناء "ريفييرا الشرق الأوسط" على أشلاء حرائر فلسطين وجثث الأطفال، وعلى العرب أن يستلموا من نجا من تلك المحرقة ويوطِّنوهم في مخيمات جديدة، مقابل المزيد من القروض والمنح والإعفاء من الضرائب الترامبية، هكذا يُخطط ترامب.
الحقيقة تقول إن الصفقات لن تتم، ولن تُباع فلسطين مُجددًا لأنَّ المجاهدين باتوا يُسطِّرون بدمائهم ملحمة التحرير والخلاص من الاستعمار الصهيوني الغربي، ولم يعد هناك ما يمكن خسرانه، ولهذا باتت المعادلات صفرية بين الكيان والمجاهدين، وارتفع صوت "حماس" وبقية حركات الجهاد في فلسطين، مقابل صمت مُذل لأتباع الغرب ودُعاة حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي، التي سقط لثامها في طوفان السابع من أكتوبر 2023، إلى غير رجعة، واكتشفت الشعوب ضعف الجيوش وبطلان النياشين المصفوفة على صدور القادة، وعلموا كذلك مدى هشاشة إسرائيل وضعفها وهوانها، فمع أول سرية من المجاهدين تدخل عسقلان المحتلة صبيحة ذلك اليوم الأغر ارتعدت فرائس نتنياهو خوفًا، وصاح ببايدن وأعوانه في بريطانيا وفرنسا وألمانيا للنجدة؛ فهبُّوا بين ليلةٍ وضحاها بكل جبروت آلتهم الحربية التي لا ترحم، إلى الكيان الصهيوني، بينما نحن العرب خذلنا المجاهدين ولم نقف معهم حتى وقفة سياسية حازمة؛ بل ظهرت كل خيباتنا وحساباتنا السياسية الضيقة، وما كان ذلك ليحدث لولا السابع من أكتوبر.
لا يختلف اثنان على أنَّ غزة ألقت باتفاقية أوسلو إلى مزبلة التاريخ، وحرَّرت الشعب الفلسطيني من كل التزاماتها وتبعاتها المهينة، واتضح أن سلطة أوسلو عبارة عن قائم مقام الاحتلال لتنظيم الشؤون العامة للشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال، وضمان عدم قيام ثورة من أجل تحرير فلسطين. لقد قرَّب "طوفان الأقصى" من استقلال دولة فلسطين وأضعف إسرائيل التي باتت اليوم تترنح بين جيش مُهلهل يهرب من ميادين القتال، وشعب مرعوب من القادم.