العمر.. وعوامل التعرية!

 

 

 

يوسف عوض العازمي

 

"وكانت المدرسة أشبه بمجتمع مغلق له طقوسه وعاداته وتقاليده التي لا يتخلى عنها، ودستور واحد لكل الطلاب لا يحيد عنه أحد، مهما كانت التدخلات والوساطات" علي الكفراوي.

 

في العلاقات الإنسانية توجد مفارقات أو ممكن تقاليد، أو متتابعات بعد حين وآخر، هناك العلاقة العابرة، كعلاقة زملاء عمل، أو علاقة عمل سريع أو مزاملة لرحلة ما، أو زمالة دراسة، أو جار في سكن مؤقت، سمها ما شئت، وكذلك وإنما توجد بعض الذكريات التي لا تنتهي وإن انتهت العلاقة، لاحظ أقول الذكريات، ولم أقل نبرة صوت!

إذن ما قصة نبرة الصوت وعلاقتها بالذكريات؟

تتساءل معي وأنا أيضا أتساءل، هل الموضوع بحاجة لاستشارة أخصائي صوت، وهل يوجد أخصائي صوت من الأساس، ما أعرفه أن هناك أطباء أذن وأنف وحنجرة، لكن هل الأذن والأنف والحنجرة لها علاقة بالصوت؛ فما رأيك لو أسرح بعيدًا وآتي لك بطبيب كلى!

القصة غريبة، وتعطي فكرة عن معطيات صعب الانتباه لها أثناء حياتنا الطبيعية، قد لا يفقهها إلا المختصون أو ممن واجه موقفا ما؛ إذ حدثني أحد الأحبة عن موقف لا ينسى حصل أمامه في قسم أمراض الكلى بأحد مستشفيات الكويت الحديثة، إذ إنه وفي وقت الانتظار بالعيادة كان بجانبه رجل كهلا تبدو علامات الشيخوخة بارزة على محياه، وحدث حديث تشعب لأحاديث، وكعادة الكويتيين (كإحدى عادات بني يعرب!) تحدثا عن كل شيء وأي شيء، من تاريخ الكويت إلى السؤال عن ماركة الأبواب الـPVC الجميلة، وكانت الأحاديث ذات شجون وبصراحة جعلت قضاء وقت الانتظار مُسليًا، إنما هل هذه هي "القمندة"، هل هذا هو صلب الموضوع الذي أكتبه لك الآن؟

بالطبع لا.. القصة الغريبة أنه أثناء الحديث بين صديقي والأخ الذي معه ومع وجود عدد من المنتظرين في العيادة، أتى شخص تتبين على ملامحه علامات الشيخوخة وتحدث للأخ الذي بجانب صديقي وهو واقفا هل أنت فلان؟

أجابه باستغراب: نعم فلان، قال له هل عرفتني، نفى المعرفة، هنا المفاجأة، قال له أنا فلان زميلك في مدرسة فيكتوريا بالإسكندرية (1) قبل أكثر من 60 عامًا، عرفتك من صوتك ومن نبرته، وبعدها سلَّما على بعضهما، ودارت الأحاديث المتعودة في مثل هذه الأثناء من سلام حار وذكريات، وكان صديقي مذهولًا من هذه الصدفة، وبالذات من كيفية معرفة الآخر بمجرد سماع نبرة صوته ولو بعد 50 عامًا!

القصة تبدو غريبة بعض الشيء، أحيانًا لا نتذكر أشكال أناس قابلناهم قبل يومين، فما بالك بتمييز أصواتهم، فما رأيك بهذا الذي تعدى عمره العقد الثامن ولا يزال يتذكر صوتا وليس شكل صديقه قبل ستين عامًا!

هل هو ذكاء، طيب ما علاقة الذكاء بمعرفة الصوت، هل هي موهبة، ممكن لم لا؟!

أعتقد أن لأسباب التذكر أمورا منها أن موقفًا مُهمًا جمعهما وهو زمالة فيكتوريا العريقة، ولا ننسى أنه بحسب قياس الفترة إبان الدراسة بفكتوريا، فقد كانت مرحلة المدّ القومي في ذروتها، وخطابات عبدالناصر الحماسية، ومظاهرات ضد الاستعمار، وأحداث مرت وكأنها مسرحية أسست لمراحل كانت الأسوأ في حال أمة الضاد!

هذه القصة نبهتني للتفكر في العمر، وحقائقه من حيث الصحة وعافية السمع والنظر وأيضًا معرفة الآخر ولو بعد حين طويل من الزمان، من نعم الله وقدرته في تشكيل صورة الإنسان أنه أتقن صنع الإنسان جل في علاه إذ قال تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين:4).

 

***************

  1. كلية فيكتوريا، الإسكندرية (بالإنجليزية: Victoria College, Alexandria)‏ هي إحدى أقدم وأكبر المدارس الإنجليزية بمصر، حيث تبلغ مساحتها 14 فدانًا، والدراسة فيها للبنين فقط وباللغة الإنجليزية، وتقع في مدينة الإسكندرية في مصر، وتحمل اسم الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا.

الأكثر قراءة