د. هيثم مزاحم **
لطالما خاطب الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله، مُناصري المقاومة والبيئة الحضانة لها بـ"أشرف الناس"، هؤلاء كانوا على العهد يوم الأحد الماضي في وداع قائدهم الذي ارتقى شهيدًا على طريق القدس، دفاعًا عن لبنان وفلسطين.
وعلى الرغم من الصقيع القارس والتهديدات الإسرائيلية، توافد مئات آلاف اللبنانيين والعرب من جميع الأراضي اللبنانية وقارات الأرض كافة لتشييع نصر الله وخليفته السيد الشهيد هاشم صفي الدين. وبحسب تقديرات محلية ودولية وصل عدد المشاركين في التشييع إلى نحو 1.6 مليون شخص؛ أي نحو 36 في المئة من سكان لبنان، وهي أكبر نسبة مشاركة في تشييع شهده التاريخ والعالم نسبة إلى عدد السكان.
وجاء هذا الحشد المليوني والتنظيم الشديد لتشييع الشهيد نصر الله؛ حيث انتشر محبو السيد في المدينة الرياضية في بيروت ومحيطها وصولًا إلى طريق المطار؛ حيث المقام الذي أقيم مقام لدفن الشهيد، ليبعث برسالة قوية إلى أعداء حزب الله في الخارج وأتباعهم في الداخل، وخاصة الكيان الإسرائيلي وراعيه الأمريكي، بأن الحزب قد استعاد عافيته وأتم ترميم بنيته التنظيمية على مستوى القيادة والصفوف المختلفة.
وقد وجَّه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم تحيّة للحشود المشاركة في تشييع الشهيد نصر الله قائلًا: "نودّع اليوم قائدًا تاريخيًا استثنائيًا وطنيًا وعربيًا إسلاميًا يمثل قبلة الأحرار في العالم"، لافتًا إلى أنَّ "السيد حبيب المقاومين وجهته فلسطين والقدس وهو الذي ساهم في إحياء هذه القضية". وأضاف مخاطبًا السيد نصر الله: "أنت القائل هذا الطريق سنُكمله جميعًا حتى لو قُتلنا جميعًا وإنّا على العهد يا نصر الله".
وحول معركة إسناد غزة، قال قاسم: "معركة إسناد غزة هي جزء من إيماننا بتحرير فلسطين، وواجهنا الكيان الاسرائيلي والطاغوت الأكبر أمريكا التي حشدت كل إمكاناتها لمواجهة محور المقاومة الذي التفّ حول غزة وفلسطين".
وأوضح أنَّ حجم الإجرام كان غير مسبوق لإنهاء المقاومة في غزة ولبنان، ولكن في المقابل كان حجم الصمود غير مسبوق؛ إذ إنَّ العدو الاسرائيلي لم يستطع التقدّم بسبب صمود المقاومة وعطاءاتها.
وكان لافتًا إشارة الشيخ قاسم إلى أن المقاومة هي الآن بعد وقف إطلاق النار "في مرحلة جديدة تختلف أدواتها وكيفية التعامل معها"، مشيرًا إلى أنَّ "أبرز خطوة اتخذناها أن تتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولياتها". لكنه شدد على أنَّ اسرائيل لا تستطيع أن تستمرّ في احتلالها وعدوانها، مؤكدًا أنَّ المقاومة موجودة وقوية عددًا وعدّة. وأضاف: "المقاومة باقية ومستمرة، المقاومة لم تنتهِ؛ بل مستمرة في جهوزيتها وهي إيمان وحقّ ولا يمكن لأحد أن يسلبنا هذا الحقّ، المقاومة تُكتب بالدماء ولا تحتاج الى الحبر على الورق".
كلام قاسم جاء ردًا على الكثير من التكهنات والتصريحات الإسرائيلية والأمريكية ولبعض العرب واللبنانيين التي اعتبرت أن حزب الله قد انتهى وأن على المقاومة تسليم سلاحها بعدما انتهى دورها، تطبيقًا للقرارات الدولية واتفاق الطائف.
وأوضح أن المقاومة ستحدد الوقت المناسب للرد على استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضي لبنانية وعلى الاعتداءات والانتهاكات اليومية الصهيونية. وقال: "حزب الله وحركة أمل كانا في متن تركيبة البلد، ولا يمكن لأحد أن يطلب منا أن ننكشف وأن نقدم ما لدينا من قوة". وأضاف: "القيادات موجودة والمقاومون موجودون والشعب موجود.. المقاومة أساس وهي خيارنا الإيماني والسياسي ما زال الاحتلال موجودًا ونمارس حقنا في المقاومة بحسب تقديرنا للمصلحة والظروف ونناقش لاحقًا استفادة لبنان من قوته عندما نناقش الاستراتيجية الدفاعية".
الشيخ قاسم أوضح أن حزب الله سيتابع تحرّك الدولة اللبنانية لطرد الاحتلال الإسرائيلي دبلوماسيًا. وأشار إلى أنَّ الحزب سيشارك في بناء الدولة القوية ونهضتها، مع حرصه على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، وتمسكه بإخراج المحتل واستعادة الأسرى وإعادة الإعمار وإقرار خطة الإنقاذ الاقتصادية والنهضة السياسية والادارية والاجتماعية بأسرع وقت.
كلام قاسم حمل رسائل مزدوجة؛ فهو عبَّر عن استيعاب الحزب للتغيّرات الدولية والإقليمية والمحلية ورغبته في منح الدولة فرصة لتحرير الأراضي والأسرى عبر الدبلوماسية، ومشاركة الحزب في بناء الدولة ونهضتها والتزامه باتفاق الطائف وتطلعه إلى استراتيجية دفاعية تكون حلًا وطنيًا للخلاف بشأن المقاومة وسلاحها. لكنه أكد على عدم التخلي عن خيار المقاومة وتسليم سلاحها طالما لا تزال هناك مناطق لبنانية محتلة واعتداءات وانتهاكات إسرائيلية مستمرة وأسرى لبنانيون في معتقلات الاحتلال.
وليس سرًا القول بإن الإدارة الأمريكية تسعى لخلق فتنة داخلية لبنانية من خلال ضغوطها على الحكومة اللبنانية لتطبيق القرار 1559 ومؤداه نزع سلاح حزب الله والمقاومة والمخيمات الفلسطينية، وهو ما تدركه المقاومة وتتجنب أي نزاع مع الجيش اللبناني، لكن بعض الأطراف اللبنانيين مستعجلين على تسليم سلاح المقاومة تلبية للضغوط الأمريكية والتهديدات الإسرائيلية.
والأمر المستغرب أن الجيش يقوم بتدمير الأسلحة التي يتسلمها من المقاومة في شمال نهر الليطاني تطبيقًا لاتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701، ولا يحتفظ بهذه الأسلحة لتعزيز قوته، وهو ما يثبت أن أمريكا وإسرائيل ترفضان وجود أي قوة وأي سلاح يردعان إسرائيل وقد يستخدمان في مواجهة أي عدوان جديد، حتى لو كانت هذه القوة وهذا السلاح في يد الجيش اللبناني، وهو الأمر نفسه الذي شهدناه في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ حيث قام الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال، بتدمير الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري؛ كي لا يشكل أي تهديد للكيان الغاصب أو يستخدم في مقاومته وتحرير الأراضي السورية المحتلة في المستقبل.
إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو 2006، وجه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رسالة ردّ فيها على رسالة المجاهدين له قال فيها: "أما للمجاهدين فأقول لهم وصلتني رسالتكم وسمعت مقالتكم، وأنتم والله كما قلتم، نعم أنتم الوعد الصادق، وأنتم النصر الآتي بإذن الله، أنتم الحرية للأسرى والتحرير للأرض، والحمى للوطن وللعرض وللشرف، يا أخواني أنتم أصالة تاريخ هذه الأمة وأنتم خلاصة روحها، أنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعشقها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتها، أنتم خلود الأرز في قممنا وتواضع سنابل القمح في ديارنا، أنتم الشموخ كجبال لبنان الشامخة العاتية على العاتي وعالية على المستعلي، أنتم بعد الله تعالى الأمل والرهان..، أقبل رؤوسكم التي أعلت كل رأس، وأقبل أياديكم القابضة على الزناد..، وأقبل أقدامكم المنغرسة في الأرض..، يا أخواني يا من أعرتم الله جماجمكم، ونظرتم الى أقسى القوم، جوابي لكم هو شكر لكم إذ قبلتموني واحدًا منكم، وأخًا لكم؛ لأنكم أنتم القادة وأنتم السادة وأنتم تاج رؤوس ومفخرة الأمة، ورجال الله الذين بهم ننتصر".
وبعد 18 عامًا على هذه الرسالة، أكد نصر الله أنه كان واحدًا من هؤلاء المجاهدين وقائدهم؛ فهو بحق، مع القادة والمجاهدين الشهداء والجرحى والشهداء الأحياء الذين قاتلوا في جبهة إسناد غزة وصدوا الغزو الصهيوني في بلدات وقرى الحافة الأمامية مع فلسطين لشهرين، مفخرة الأمة التي لم تعرف منذ واقعة كربلاء، قائدًا مُخلصًا ومتفانيًا قضى حياته كلها مجاهدًا. وحقق انتصارين عظيمين على إسرائيل، لم يحقق مثلهما أحد من القادة والدول العربية، انتصار التحرير عام 2000 وانتصار 2006. وهو القائد الوحيد الذي سارع منذ اليوم الأول لمساندة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بفتح جبهة الجنوب على الكيان لمدة 13 شهرًا، إلى أن ارتقى شهيدًا؛ حيث استخدمت أحدث المقاتلات الأمريكية والقنابل الخارقة و84 طنًا من المتفجرات لقتله.
لقد كان استثنائيًا في أخلاقه ونضاله ومواقفه وخطاباته وإنجازاته وشعبيته وحتى في شهادته.
انتقل السيد نصر الله إلى بارئه تاركًا الملايين من محبيه وأنصاره في لبنان وفلسطين والعراق واليمن ودول عربية وإسلامية أخرى، ممن تربّوا على خطاباته واختاروا درب المقاومة ولا يزالون يرددون: "إنّا على العهد باقون".
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان