بدر بن خميس الظّفري
لو قيل لك يومًا إن الرجال "ناقصو عقل ودين"، كيف سيكون رد فعلك؟ هل ستبحث عن تفسير منطقي لهذه العبارة؟ أم أنك سترفضها جملةً وتفصيلًا، مُعتبرًا أنها إهانة لا تقبلها الفطرة السليمة؟
أليس هذا بالضبط ما يحدث حين يُلقى حديث "ناقصات عقل ودين" على مسامع النساء؟ أليس هو ذاته التساؤل الذي يُراوِد أي امرأة تسمع هذا الوصف وكأنه قدر محتوم؟
حين تنقلب الأدوار، نكتشف أن اللغة ليست مجرد كلمات تُلقى؛ بل سُلطة وتأثير إيجابي أو سلبي. ولو قيل للرجال ما قيل للنساء، لاشتعلت ساحات الفقه والفكر، وتسابقت الأقلام في الدفاع عن كرامتهم، وفي تفكيك المعاني وتأويلها، وفي إعادة قراءة النصوص من زوايا أخرى أكثر رحابة وإنصافًا، وهذا ما سنقوم به في هذا المقال.
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن"، كان الحديث موجهًا للنساء في يومِ عيدٍ، وكان في سياق تحفيزي، لا في سياق إصدار حكم فقهي عام عن المرأة. ولكن مع مرور الزمن، اجتُزئ الحديث من سياقه، ليصبح سلاحًا ضد المرأة في كل مناسبة، رغم أن معناه لا يحمل أي انتقاص جوهري.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه المقصود بـ"نقصان العقل" بأنه مرتبط بمسألة الشهادة في القضاء؛ حيث شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد في بعض المعاملات المالية، وهو ليس قاعدة عامة في كل المجالات، بدليل أن المرأة تُقبل شهادتها مُنفردة في أمور أخرى مثل الولادة والرضاعة وبعض الحدود. كما أن هذا ليس حكمًا متعلقًا بذكاء المرأة أو قدرتها العقلية؛ بل بمدى اطلاعها على مجال معين وهو المجال المالي؛ حيث كان المجتمع آنذاك يجعل من الاقتصاد والتجارة مهنة رجالية أكثر منها نسائية، ولذلك كانت خبرتها قليلة فيه. ولو كان النقصان أمرًا فطريًا، لما رأينا نساءً يتفوقن في العلوم والقيادة، ولما كان التاريخ مُمتلئًا بعالمات ومفكرات بارزات.
أما نُقصان الدين، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن المرأة تتوقف عن الصلاة والصيام أثناء الحيض، ولكن هل هذا "نقص" بالمعنى السلبي؟ كلا، لأن التوقف عن الصلاة ليس تقصيرًا منها؛ بل هو امتثال لأوامر الله بسبب بيولوجي يطرأ عليها، تمامًا كما أن المريض الذي يفطر في رمضان لا يُقال إنه ناقص دين.
الدين ليس مجرد أداء للعبادات الشكلية؛ بل هو إيمان وعمل صالح وتقوى، والمرأة لا تقل التزامًا بالدين عن الرجل في أي سياق آخر. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يُخاطب النساء ليحط من شأنهن؛ بل كان يُشجعهن على الإنفاق والتصدُّق، وهو الأسلوب ذاته الذي استخدمه في خطابات أخرى مع الرجال أيضًا. ولو كان الإسلام يرى في المرأة نقصًا فطريًا، لما كانت أول مؤمنة به امرأة وهي السيدة خديجة، ولما كان أول شهيدة امرأة وهي سُمية والدة عمار بن ياسر رضي الله عنهما، ولما كانت أم المؤمنين عائشة في مصاف العلماء، والنساء في مصاف القادة.
وكثيرًا ما يُستخدم الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة لتبرير فكرة "النُقصان"، ولكن العلم يوضح أن الاختلاف لا يعني التفاضل؛ بل التكامل؛ فالرجل والمرأة متشابهان في التكوين الإنساني، مختلفان في بعض السمات الفسيولوجية والنفسية، ولكن هذه الفروق ليست دليلًا على تفوق أحدهما على الآخر.
الرجل يمتلك كتلة عضلية أكبر؛ مما يجعله أكثر قدرة على الأعمال الجسدية القوية، بينما المرأة لديها نسبة دهون أعلى لحماية الحمل والإنجاب، وهرمونات تمنحها مقاومة أعلى للأمراض. وفي تكوين الدماغ، تُشير الدراسات إلى أن الدماغ الذكري والأنثوي متشابهان في القدرات، لكنهما يختلفان في آلية المعالجة؛ فالرجال يميلون إلى التفكير التحليلي واتخاذ القرارات السريعة، بينما النساء أكثر قدرة على التواصل العاطفي والتفكير المُتعدِّد المهام.
أما نفسيًا؛ فالرجل أكثر ميلًا إلى العدوانية واتخاذ المخاطر، بينما المرأة أكثر قدرة على قراءة العواطف والتواصل الاجتماعي، مما يمنحها ميزة في التربية والتعليم والرعاية. ولكن، هل هذا يجعل أحدهما "أفضل" من الآخر؟ أم أنهما مختلفان بطريقة تجعل كلًا منهما مكملًا للآخر في دورة الحياة؟
ولكن، ماذا لو أعدنا النظر في المسألة كلها؟ ماذا لو بحثنا عن أوجه "نقصان العقل والدين" لدى الرجال؟ أليسوا أكثر ميلًا إلى الغضب والتسرع في اتخاذ القرارات؟ أليسوا من يقودون الحروب، ويشعلون النزاعات، ويجعلون العالم ميدانًا للصراعات السياسية والاقتصادية؟ أليست النسبة الأكبر من الجرائم حول العالم مرتكبوها رجال؟ وإذا كانت المرأة تُتَّهَم بالعاطفة المُفرِطة، أليس الرجل يُتهم بالقسوة الزائدة؟ وإن كان غياب المرأة عن الصلاة والصيام بسبب عذر بيولوجي يُعتبر "نقصًا"، فلماذا لا يُعتبر غياب الرجل عن العبادات بسبب الغفلة أو التكاسل نقصًا أشد؟
حين ننظر إلى النصوص بمنطق الإنصاف، نُدرك أن الإسلام لم يكن يومًا دينًا ينتقص من المرأة؛ بل إن بعض التأويلات هي التي صنعت هذا الفهم المَبتُور، فقد كرَّمها الله في القرآن، وخاطبها كمُكلَّفة مُستقلة، وأعطاها حقوقها كاملة، بينما يأتي التأويل التاريخي ليعيدها إلى الهامش باسم الدين، وهو منه براء.
ولذا فإن الحديث عن نقصان العقل والدين لا يمكن أن يكون سلاحًا ضد المرأة وحدها، وإلّا لوجب أن ينطبق بنفس المنطق على الرجال. ولو كان العقل يُقاس بالجنس، لما رأينا عالِمات وفيلسوفات ومُفكِّرات يُغيِّرن التاريخ. ولو كان الدين يُقاس بالحيض، لما كانت النساء أكثر التزامًا بالشعائر وأقرب إلى الروحانيات في كثير من الأحيان.
إنَّ العدل في الإسلام لم يكن يومًا مرتبطًا بجنس الإنسان؛ بل بمدى استقامته وسعيه للحق. وحين نفهم الدين بهذا المنظور، نُدرك أن القضية ليست في نقصان العقول أو كمالها، بقدر ما يكون في كيفية استخدامها في بناء حياة أكثر عدلًا وإنصافًا.