د. يوسف بن حمد البلوشي
مع اقتراب إطلاق خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة، والتي تُمثِّل الخطة الثانية من بين أربع خطط خمسية مُهمة تُشكِّل "رؤية عُمان 2040"، ونظرًا لمحدودية المساحة المُتاحة في هذا المقال، فإنَّنِي لست في معرض تقييم النتائج التي أفرزتها خطة التنمية الخمسية العاشرة؛ بل سأُركِّز على تقديم مجموعة من المقترحات التي نأمل أن تُلاقي القبول لدى من يستطيع الاستفادة منها؛ لتحقيق الأهداف الاقتصادية المرجوة للاقتصاد العُماني.
تُركِّز هذه المقترحات في جوهرها على الإطار المالي للخطة الخمسية المُقبلة، وهو إطار يُمثِّل خطةً ماليةً مُتكاملةً لتوجيه تخصيص الموارد المالية بشكل فعّال، وفق من إطار زمني يمتد لخمس سنوات، تُحدَّد فيه أولويات الإنفاق الحكومي وتوزيع الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف التنموية الاقتصادية والاجتماعية. ويهدف هذا الإطار المالي إلى ضمان الاستخدام الأمثل للموارد في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، مع مراعاة الأوضاع المحلية والدولية، إضافةً إلى تعزيز الاستقرار المالي للدولة على المدييْن المتوسط والطويل؛ بما يُسهم في تحقيق تنمية اقتصادية مُستدامة.
وتتجسَّد أبرز ملامح هذا الإطار في تقديرات الإيرادات المُتوقَّعة من مختلف المصادر؛ سواءً كانت نفطية أو غير نفطية، وكذلك حجم الإنفاق العام، بشقيه: الجاري والاستثماري. ويشمل أيضًا توزيع المُخصَّصات المالية بين القطاعات والمشاريع التنموية المختلفة، وتحديد مصادر التمويل المتاحة؛ سواءً كانت محلية أو خارجية. ويتضمن الإطار كذلك وضع حدود للعجز المالي وسبل تمويله، إضافة إلى تحديد آليات تحقيق الاستدامة المالية وضمان التوازن بين الإيرادات والنفقات.
وتُعد إدارة الاقتصاد عملية مُتكاملة تعتمد على تضافر مجموعة من السياسات المتنوعة والمترابطة (مالية، ونقدية، واستثمارية، وضريبية، وغيرها)، والتي تهدف إلى توجيه المسار الاستراتيجي للاقتصاد والتخفيف من آثار الأزمات والتقلُّبات الاقتصادية. وهناك علاقة وثيقة بين تحقيق الاستدامة المالية والنمو الاقتصادي، ودور القطاع الخاص في تعزيز هذا النمو.
كما إنَّ القرارات والسياسات المالية المُتَّبعة من قِبل الحكومة تُشكِّل الأساس الذي سيُحدِّد مسار التنمية المُستقبلية. وتؤثر هذه السياسات -بطبيعة الحال، ولا سيما المالية منها- على تنافسية بيئة الأعمال وسلوك الفاعلين الاقتصاديين من أفراد ومؤسسات؛ سواءً كانت خاصة أو حكومية، إضافة إلى التأثير على التعاملات الاقتصادية الخارجية. وتسهم هذه السياسات أيضًا في تحسين جاهزية عناصر الإنتاج الأساسية؛ مثل: رأس المال، وسوق العمل، والموارد المتاحة، وأنظمة الإدارة؛ مما يُعزِّز القدرة على تحقيق نمو اقتصادي مُستدام وفعّال.
وتستدعي المرحلة المقبلة تحولًا جوهريًا في أنماط إدارة الموارد الاقتصادية المحلية؛ فالنموذج التنموي الحالي -القائم على الهيكل الهرمي المقلوب من الأعلى إلى الأسفل والمُدار حكوميًا- يَتَّسِم بهيمنة الشركات الحكومية على معظم القطاعات، مع اعتماد كبير على الاستيراد وتصدير المواد الخام. ولتحقيق هذا التحول، يتعين إعادة هيكلة الإطار المالي للخطة الخمسية المقبلة؛ بما يدعم تحولًا اقتصاديًا شاملًا تقوده شركات القطاع الخاص. ويتطلب هذا التحول توفير بيئة استثمارية مُحفِّزة تتميَّز بتكاليف تشغيلية مُنافِسة، وحلولًا تمويلية مُيسَّرة بشروط مَرِنة، وفُرص واعدة لتحقيق عوائد مُجزِية، وقدرة على رفد خزينة الدولة بإيرادات ضريبية مُستدامة، وإمكانات واسعة لتوفير فرص عمل متنوعة للمواطنين، ومساهمة فعَّالة في تنويع القاعدة الإنتاجية والصناعية والتصديرية.
وعلى الرغم من الجهود المُستمرة والمُكثَّفة لتعزيز نمو القطاعات غير النفطية، فإنَّ الاقتصاد الوطني ما زال يواجه مجموعة من التحديات التي تتطلب اتخاذ إجراءات استراتيجية مُهمة؛ بما يضمن تعزيز هيكلة الاقتصاد، وترتيب الأولويات وتنظيمها، وفق آليات ومعايير عالمية، تُحقق الأهداف والغايات المنشودة.
وفيما يلي نُقدِّم مجموعةً من المقترحات المتعلقة بجانبي الإنفاق العام والإيرادات غير النفطية. ونبدأ بالإنفاق العام، الذي يُعد توجيهه بشكل فعّال أحد العوامل الحاسمة في تحقيق التحولات الاقتصادية المستهدفة وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد. وبالتالي، نقترح أن يُركِّز الإطار المالي على مجموعة من الأولويات الاستراتيجية؛ أبرزها: استكمال البنية الأساسية للتجمُّعات الاقتصادية المُتكامِلة، من خلال ضمان استمرارية تطوير هذه البُنى ضمن برامج التنويع الاقتصادي؛ مما يُعزِّز جاذبيتها للاستثمارات المحلية والدولية. إضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز تكامل البنية الأساسية عبر زيادة الاستثمار في الخدمات اللوجستية والمرافق الحيوية المرتبطة بالمطارات والموانئ وشبكات النقل والطاقة. وهذا من شأنه رفع كفاءة المشروعات الاقتصادية وتعزيز تكاملها؛ بما يدعم قدرتها على ضمان استدامة النمو الاقتصادي وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة التي ما زالت غير مُستغلة بشكل كامل.
ومن بين الأولويات الاستراتيجية التي ينبغي التركيز عليها، تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري والتقنيات الحديثة، وتوجيه الإنفاق نحو تطوير منظومة التعليم والتدريب المهني؛ بما يتماشى مع احتياجات وأولويات الاقتصاد الوطني، وبما يسهم في تأهيل الكفاءات الوطنية ورفع مستويات الإنتاجية والتنافسية، ويوفر فرص عمل جاذبة للمواطنين.
وهناك حاجة للإنفاق على زيادة درجة الوعي والتواصل مع أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال في القطاع الخاص؛ لمعرفة جانب من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والمالية لإعداد العُدة وتغيير بعض أنماط الاستهلاك والقناعات حول الأدوار المطلوبة من الجميع في المستقبل.
كما إنَّ تهيئة وتجهيز وتحفيز القطاعات الاقتصادية المختلفة -وعلى رأسها قطاع الخدمات- تُشكِّل أولوية استراتيجية مُهمة. ويتطلب ذلك دعم وتطوير القطاعات ذات القدرة العالية على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مثل الصناعات التحويلية، وقطاع السياحة، وقطاع التعدين، والخدمات المرتبطة به. وهذا يُسهم في تعزيز النمو المُستدام وتنويع مصادر الدخل، مع ضرورة تخصيص الإنفاق لتسويق السلطنة كوجهة استثمارية وسياحية متميزة.
ويُمثِّل دعم التحول الصناعي والتكنولوجي أولويةً استراتيجيةً أخرى، تتطلب زيادة المُخصَّصات المالية للاستثمار في التقنيات المُتقدِّمة والآلات والمعدات الحديثة بالمصانع المحلية. وهذا التوجه يُسهم بشكل مباشر في تعزيز الإنتاجية ورفع مستوى التنافسية الصناعية؛ مما يدعم قدرة الاقتصاد على مواكبة التطورات التكنولوجية العالمية.
ويُعد تعزيز المحتوى المحلي وزيادة الاستثمارات في الشق السفلي والوَسَطِي لقطاعات الألمنيوم والبلاستيك والبتروكيماويات وغيرها، أحد الأبعاد الاستراتيجية التي يجب التركيز عليها، من خلال توجيه الإنفاق عبر برامج وحوافز مدروسة، تهدف إلى تشجيع استثمارات القطاع الخاص -شركات مجتمعية في مختلف المحافظات- في تلك المشاريع التي تعتمد بشكل كبير على المحتوى المحلي. وهذا من شأنه أن يُسهم في خلق فرص عمل محلية، وتعزيز سلسلة القيمة الوطنية، وتقليل الاعتماد على الواردات.
ومن بين الأولويات الأخرى، يأتي تعزيز البحث العلمي والابتكار ودعم ريادة الأعمال، من خلال تخصيص مزيد من الموارد المالية لدعم البحث العلمي والمشاريع الريادية، وتحويل مخرجات البحوث والأفكار إلى مشاريع تجارية واحتضانها وتسريع وتيرة نموها. وهذا يُسرِّع وتيرة الابتكار ويخلق بيئة داعمة لنمو الشركات الناشئة وتطوير التقنيات المستقبلية.
وينبغي كذلك تعزيز الاستثمار في الخدمات الداعمة للمشاريع الكبرى، من خلال توجيه الإنفاق نحو تطوير المرافق الأساسية والأنظمة الداعمة التي تُسهم في تنفيذ وتشغيل المشاريع الكبرى بكفاءة واستدامة.
وفيما يتعلق بالإيرادات العامة، وبخاصة الإيرادات غير النفطية، نقترحُ عددًا من التدابير الرئيسية التي تُسهم في تعزيز كفاءة تحصيل الإيرادات المالية. أولها: توسيع القاعدة الضريبية عبر تحسين بيئة الأعمال وتسهيل الإجراءات التنظيمية؛ مما يُعزِّز تنافسية الشركات المحلية ويُحسن أداءها المالي. وقد بات من الضروري خلق مناخ ملائم لنمو الأعمال وازدهارها؛ بما يضمن تحقيق الشركات لأرباحٍ تنعكس في رفد الميزانية العامة بنحو 15% من إجمالي أرباح الشركات عبر ضريبة الشركات. وفي هذا السياق، نُوصي بالحد من استحداث ضرائب ورسوم جديدة تؤثر سلبًا على تنافسية الأعمال. كما إن هناك أهمية لتعزيز الامتثال الضريبي وتقليص التهرب الضريبي، من خلال تبني التقنيات الرقمية المُتقدِّمة، التي تُتيح مراقبة التدفقات المالية بشكل دقيق وفعّال؛ مما يُعزِّز من شفافية النظام الضريبي ويضمن تحصيل الإيرادات بشكل أكثر كفاءة.
وتتضمن الاقتراحات أيضًا تعظيم الاستفادة من الأصول الحكومية من خلال خصخصة بعض الخدمات أو تحسين إدارتها لتحقيق أعلى عائد مالي مُمكِن. إلى جانب ذلك، زيادة كفاءة وربحية شركات جهاز الاستثمار. علاوة على ضرورة تحسين التشريعات لضمان بيئة استثمارية جاذبة، وتقليص البيروقراطية لتسهيل إجراءات تأسيس الأعمال. كما نقترح تقديم حوافز استثمارية في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة، لدعم الابتكار وتعزيز النمو الاقتصادي.
إضافة إلى ما سبق، نوصي بتعزيز مشاريع الربط البري والبحري مع الأسواق الإقليمية والدولية، ودعم جهود الدبلوماسية الاقتصادية؛ مما يُسهم في تكثيف ارتباط عُمان مع الاقتصاد العالمي، وجذب المزيد من الاستثمارات، وتنمية الصادرات، والتشبيك مع الأسواق المستهدفة، وتعظيم الاستفادة من الاتفاقيات الحرة والدولية، وتيسير حركة التجارة، وزيادة العوائد من رسوم النقل والتخزين.
ومن جهة أخرى، يُعد تطوير سوق السندات والصكوك كأدواتٍ تمويلية بديلة، خطوةً مُهمةً لتخفيف الضغط على الميزانية العامة للدولة، وتعزيز استدامة التمويل في المدى الطويل.
إنَّ التحديات الهيكلية التي يواجهها اقتصادنا تتطلب إعادة توجيه بوصلة الإطار المالي، بشكل يتماشى مع أهداف التنويع الاقتصادي المُستدام. وينبغي أن يُركِّز الإطار المالي على دعم الحلول الإنتاجية؛ مما يُسهم في تحقيق التحوُّلات اللازمة في بُنية وهيكلية الاقتصاد. وهذا يتطلب التركيز على تطوير الأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المُضافة المرتفعة، وتحديد الأولويات على نحوٍ يضمن استدامة النمو الاقتصادي عند مستويات مرتفعة.
وفي الختام، نؤكد ضرورة أن يُركِّز الإطار المالي في جوانب إنفاقه وإيراداته، على تهيئة وتعزيز الظروف للقطاع الخاص لتعظيم إسهاماته؛ باعتبار أن هذا القطاع هو مفتاح خزائن التنويع والإنتاج والوظائف، وكلمة المرور التي من خلالها سيَلِج اقتصادنا الوطني نحو آفاقٍ أرحب من التنمية، من خلال تحريك جميع القطاعات وتوظيف المزايا النسبية التي يزخر بها هذا الوطن العزيز.