إحياء العمارة

 

 

د. صالح الفهدي

يقول المعماري المصري المعروف حسن فتحي: "العمارة هي التعبير الأكثر وضوحًا عن الهوية الثقافية للمجتمع" ذلك لأنَّ العمارة هي الصرح المادي الماثلِ للعيان الذي يمكنُ أن يعكس ثقافة الشعب، وتراث الأُمةِ، بل أنه رمزٌ معبِّرٌ عن قيم المجتمع، الأمر الذي يؤكِّدهُ المهندس المعماري الياباني الشهير "تاداو أندو" الذي عكست تصاميمه البساطة والهوية المحلية بقوله: "العمارة ليست مجرد بناء، بل هي لغة تعبر عن ثقافة المجتمع وقيمه".

ولا يمكنُ أن يُنظر للعمارة على أنها مجرَّد مسكنٍ مقامٍ لإيواءِ الإنسانِ كيفما اتفقَ، بل أنها تعكسُ أولًا التكيُّف مع البيئةِ، ومتطلباتِ التعايشِ معها، والثقافة السائدة في المجتمع، كما أنها تعبِّرُ عن ذوق وأفكار ورؤية صاحب المسكنِ نفسه، ولهذا يرى المعماري المصري المتخصص في العمارة الإسلامية الحديثة عبدالواحد الوكيل أنَّ: "الهوية المعمارية ليست مجرد مظهر خارجي، بل هي انعكاس لروح المكان وذاكرته الجماعية".

من هُنا؛ توجَّبَ الحفاظُ على "الروح الثقافية" للعمارة والحفاظ على جوهر الهوية في صميم الإبداع المعماري، بحيث لا يفلتُ خيط الإبداع إلى فضاءاتٍ غريبة كما لا يدور -في المقابل- في فَلَك التقليد النَّمطي الذي لا جديد فيه، يقول المهندس الفرنسي المشهور بتصاميمه المعمارية الحداثية "جان نوفيل" في علاقة العمارة بالهُوية: "يجب أن تكون العمارة امتدادًا للهوية، لا قطيعةً معها".

وفي أثناء تجوالي في معرض مبادرة "إحياء العمارة" المقام في متحف "عُمان عبر الزمان" بدعوة شخصية كريمة من صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد، كانت الهوية الثقافية حاضرةً في صميمِ المبادرة، وليس ذلك بالغريب على سموِّ السيد بلعرب بن هيثم فقد برزَ اهتمامه ظاهرًا جليًَّا بإِحياء العمارة العُمانية وتعزيز هويتها الثقافية.

لقد أرادَ سموَّهُ أن يعزِّز الوعي المجتمعي بقيمة التصميم المعماري كجزء أساسي من الهوية الوطنية، وتوجيه المجتمع لاستكشاف العمارة العُمانية وفهم تأثيرها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.

هذا التوجُّه الحميد يندرجُ في سياقِ حفاظ الأُمَّةِ على هويَّتها الوطنية التاريخية في مختلفِ الجوانب ومن ذلك جانب العمارة، ولأجل ذلك برز ما يُسمَّى بالكود المعماري (Architectural Code) الذي يحدِّد المعايير والتصاميم التي تحافظ على الهوية الثقافية، مع دمج التقنيات الحديثة وعناصر الاستدامة.

ويبرزُ التناغم بين الأصالة والحداثة في اهتمام سلطنة عُمان؛ على سبيل المثال في مدينة السلطان هيثم، اعتَمَد الطراز المعماري للأحياء السكنية على تصاميم مستوحاة من العمارة العُمانية التقليدية، مع مساحات خضراء تعكس البيئة الطبيعية للسلطنة، أما الجانب العصري فيها فيتحقق من خلال إدخال أنظمة ذكية للتحكم في استهلاك المياه والكهرباء، إضافةً إلى التخطيط العمراني الذكي الذي يعزز التنقل المستدام.

إنَّ المتأمِّل للعمارة العُمانية عبر الأزمنة يجدها قد تميَّزت بعدَّة عناصر، نذكرُ على سبيل المثال: أنَّ تصاميم مبانيها يشتمل على فتحات تهوية وممرات هوائية تساعد في تقليل درجات الحرارة داخل المنازل، أما الجدران السميكة والمصنوعة من الطين أو الحجر تساعدُ على عزلِ الحرارة صيفًا، وتحافظُ على الدفءِ شتاءً، كما أنَّ انتشار اللون الأبيض في الواجهات من أجل أن تعكس حرارة الشمس، في حين أن الأزقة الضيقة هدفها توفير الظلال الطبيعية. أما الأبواب العمانية فتتميز بتصاميمها الهندسية المتقنة والزخارف الإسلامية التقليدية، كما تتميَّز المشربيات الخشبية بالزخرفة وتوفير التهوية الطبيعية والمحافظة على خصوصية السكان.

لا شكَّ أن رفع الوعي العمراني وأهمية تناغمه مع الهوية أمرٌ يمكنهُ أن يضعَ حدًا للانفلات بحجَّةِ الإِبداع أو التصميم غير المنضبط بأَيَّة هُوية إذ من المؤكَّدِ أنه "عندما تفقد المدن هويتها المعمارية، فإنها تفقد جزءًا من تاريخها وروحها". كما يقول المهندس الهولندي الحائز على جائزة بريتزكر ريم كولهاس، فكان لزامًا ضبط إيقاع الفكرة وتحديد وجهتها.

وإذ أصبح الحديثُ عن "أنسنةِ المدن" عاليًا في السنواتِ الأخيرة فليس ذلك من أجلِ الرفاهيةِ الإنسانية وحسب؛ بل ومن أجل هويُّتنا أيضًا فـ "نحن لا نصنع العمارة فقط، بل العمارة تصنعنا أيضًا، لأنها تؤثر على هويتنا اليومية". كما قال ذات مرَّة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق.  

إنَّه لمن الرائع أن نجدَ شخصيَّة رفيعةً في مقامِ سموِّ السيد بلعربِ بن هيثم يشكِّل المعمارُ شغفًا بالنسبةِ إليهِ، يرى في إحياء العمارة العمانية مسؤولية وطنية باعتبارها جزءًا من هويتنا الثقافية وتراثنا الغني، الأمر الذي يسهم عبر مشاريع "جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري" في رفع سقف التعاطي مع روح الهوية للعمارة العمانية وانسجامها مع الإِبداع العصري بكلِّ معطياته.

الأكثر قراءة