الشيخ الخليلي.. حكمة تجمع الأمة وصوتٌ للتسامح

 

 

 

رامي بن سالم البوسعيدي

 

في عالم يعج بصخب الأحداث والتفاعلات الاجتماعية المُتسارعة، تظل الكلمات الصادقة التي تنبض بروح التسامح والتواضع نورًا يسترشد به المجتمع نحو السكينة والأخلاق السامية، حينما تصدر كلمات اعتذار وصفح عن شخصية علمية ودينية بمكانة سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، مفتي عام سلطنة عُمان، فإنها لا تعكس فقط موقفًا شخصيًا، بل تحمل رسالة فكرية وأخلاقية عميقة تتجاوز حدود الفرد لتلامس وجدان الأمة بأسرها.

تابعتُ رسالة سماحة الشيخ أحمد الخليلي عبر حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كان يعتذر فيها إن أخطأ في حق أي إنسان، ويعفو فيها عن كل من أساء إليه أو ظلمه، وهي رسالة عميقة جداً تجلنا جميعاً نقف إجلالاً لهذا الرجل أولاً، ثم رسالته التي يود توصيلها، الاعتذار والتسامح ليسا مجرد فضيلتين اجتماعيتين؛ بل هما أدوات لإعادة صياغة العلاقات الإنسانية على أسس من النقاء والصفاء، وفي خطابه المتواضع الذي يدعو فيه إلى العفو والمسامحة، يضع الشيخ الخليلي نموذجًا يُحتذى به في مُواجهة تحديات العصر؛ حيث أصبحت النزاعات والصراعات الفكرية والاجتماعية تُهدد النسيج الأخلاقي للأمم، ودعوته الصريحة للتوبة، والتماس العفو ممن قد يكون أساء إليهم، تشكل رسالة تُعيد تعريف القيادة الدينية على أساس إنساني عميق، يُؤمن بأن الإيمان الحق يتجلى في التسامح والعفو والاعتراف بالخطأ.

هذا الموقف النبيل ليس مجرد دعوة إلى تصفية النفوس، بل هو تأصيل فكري لرؤية دينية تتفاعل مع تحديات العصر؛ حيث يصبح التواضع قوة، والاعتذار فضيلة، والتسامح انتصارًا للنفس والإنسانية، فما أحوجنا اليوم إلى هذه الروح التي تدعو إلى السلام الداخلي والتواصل النقي بين الناس، لتكون أساسًا لاستقرار المجتمعات وتعزيز القيم التي تحفظ كيان الأمة وكرامتها، سماحته شخصية تحمل في مسيرتها العلمية والدعوية الكثير من العطاء للأمة الإسلامية والمجتمع العُماني على وجه الخصوص، واستطاع  أن يكون رمزًا للوسطية والحكمة، ويشهد له الجميع باتزانه في الخطاب ومواقفه الثابتة تجاه قضايا الدين والمجتمع والأمة.

لقد نشأ سماحته في بيئة تجمع بين الأصالة العُمانية والانفتاح الثقافي الأفريقي، كونه ولد في زنجبار عام 1942 خلال فترة الوجود العُماني في شرق إفريقيا، وهو ما أثر في تكوينه الفكري والعلمي، بدءًا بمسيرته العلمية بحفظ القرآن الكريم ودراسة علوم الشريعة واللغة العربية على أيدي كبار العلماء في زنجبار، حتى عودته للسلطنة ليُواصل رحلة العلم والبحث الشرعي، ثم تعيينه مفتيًا عامًا للسلطنة عام 1975، ليبدأ مرحلة جديدة من العطاء الفكري والديني استمرت لعقود طويلة.

ويتميز خطاب سماحة الشيخ الخليلي بالاعتدال والوعي العميق بقضايا العصر، حيث يُعرف بقدرته على الجمع بين الثوابت الشرعية ومتغيرات الواقع، وخطبه ومداخلاته الإعلامية تحمل دائمًا رسائل تدعو إلى الوحدة والتماسك ونبذ الفتنة والتعصب، وهو ما أكسبه احترامًا واسعًا في الأوساط الدينية والفكرية داخل عُمان وخارجها، ونجح في أن يكون مرجعًا دينيًا موثوقًا يلجأ إليه الناس في القضايا الفقهية والاجتماعية، لما يقدم من رؤى مستنيرة تراعي حاجات المجتمع وتحديات الزمن.

لم تقتصر جهود الشيخ الخليلي على الجانب الفقهي فقط؛ بل كان له دور بارز في تعزيز التلاحم الوطني ونشر قيم التسامح بين مختلف شرائح المجتمع العُماني، وهو دائمًا داعمًا للإصلاح الاجتماعي وحل النزاعات بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن أبرز مواقفه دوره في تهدئة الأوضاع الاجتماعية وتقديم المشورة البناءة التي أسهمت في تعزيز الاستقرار المجتمعي، كما أنه من أشد الداعمين للتعليم الديني ونشر العلم الشرعي؛ حيث يشجع على تأسيس المدارس الدينية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، إضافة إلى إثرائه للمكتبة العُمانية بالعديد من الكتب والمقالات التي تُعنى بالفقه الإسلامي وقضايا الأمة.

وعلى الصعيد العربي والإسلامي لسماحة الشيخ مواقف واضحة تجاه قضايا الأمة الكبرى، وهو من أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية، ويؤكد باستمرار على أن القدس والأقصى أمانة في أعناق المسلمين جميعًا، ولم يتردد في إدانة الاعتداءات على الشعب الفلسطيني ودعا إلى دعم مقاومته المشروعة، كما كانت له مواقف مشرفة تجاه نصرة الشعوب المستضعفة في مختلف بقاع العالم الإسلامي، وعبر في العديد من المناسبات عن رفضه للظلم والعدوان، داعيًا إلى تحقيق العدالة والسلام، وهو داعيًا قويًا إلى الوحدة الإسلامية ونبذ الفرقة بين المذاهب والتيارات الفكرية، ويؤمن بأن الإسلام دين يجمع ولا يفرق، ودائمًا ما يشدد على أهمية الحوار والتعاون بين الدول والشعوب الإسلامية لتحقيق النهضة والتقدم، وهذه الرؤية الحكيمة جعلت منه شخصية محورية تجمع بين العلماء والمفكرين من مختلف الاتجاهات.

إنَّ ما يُميِّز سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي هو قدرته على التعامل بحكمة مع المستجدات والتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، ويرى أن الغلو والتطرف من أخطر ما يهدد المجتمعات، لذا يدعو إلى الوسطية والاعتدال كنهج أساسي للتعامل مع قضايا الدين والحياة، وهو دائمًا صوتًا يدعو إلى التمسك بالقيم الإسلامية الأصيلة مع الانفتاح الواعي على العالم.

مسيرة سماحته ليست مجرد رحلة علمية ودينية؛ بل هي رسالة خالدة تحمل قيم العدل والتسامح والإصلاح، واستطاع أن يجمع بين الفقه العميق والرؤية الاجتماعية الواعية؛ مما جعله شخصية مرجعية تحظى باحترام الجميع، وفي وقت يحتاج فيه العالم الإسلامي إلى أصوات تجمع ولا تفرق، تظل رسالة الشيخ الخليلي نبراسًا للأجيال القادمة، تذكرهم بأن الحكمة والاعتدال هما السبيل لتحقيق السلام والازدهار، حفظ الله سماحته ومتعنا بصحته.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة