مسعود أحمد بيت سعيد
بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برنامجه الاستعماري وفق المبدأ الرأسمالي الشهير- الدفع نقدًا- وبصرف النظر عن مقدرته على تنفيذ أوهامه الكولونيالية التوسعية، وعلى ضوء الاستهجان العالمي وردود الأفعال المتفاوتة، وفي إطار محاولة استشراف الأفق القادم وأبعاده على الصعيد العربي، لا بُد من التوقف أمام التحولات الإقليمية، وما أفرزته من مُعطيات تكاد تطاول الروافد التاريخية المشتركة للأمة العربية بأسرها وتكييف وقائعها على مقاسات ومتطلبات الهيمنة الاستعمارية، بحيث يسهل قضمها، تمهيدًا لقطيعة كبرى مع قضية الحرية والسيادة الوطنية والتقدم الاجتماعي.
وبما أن المُقاربات السياسية الرسمية ما زالت تنحو باتجاه مراعاة الرؤية الأمريكية، فإنها تُشكِّل مُغريات تفتح شهية القوى الاستعمارية الدولية والإقليمية أكثر فأكثر، ولاريب أن واقعًا جديدًا بدأت ملامحه وقسماته تتشكل وأن حركته الفعلية آخذة مجراها في سكون تام، وهي بالطبع تصُب في المصلحة الإمبريالية والصهيونية وبعض ملحقاتها الإقليمية. وبطبيعة الحال فإن منطقة الشرق الأوسط تُعد شريان الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ويُقال إن من يمتلك مفاتيحه يمتلك العالم، بينما شعوبه تتضور جوعًا وحرمانًا. ومخطئٌ من يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستُسلِّم بالتعددية القطبية بتلك البساطة، وهي التي تعجن العالم على هوها، وتستعجل قطف ثمار انتصاراتها؛ حيث بدأت تتكشف مرامي وغايات مشروعها المرحلي، من خلال تكثيف الضغوط السياسية باتجاهات مُتعدِّدة، ومن المُرجَّح أن تزداد خشونة في الفترة المقبلة. ولا نذيع سرًا بأن المخططات المُعدَّة للمنطقة بشكل عام- والدول العربية بشكل خاص- قد أُنجز الكثير منها، وما تبقى ربما يتمحور بالدرجة الأولى حول مِصر، خصوصًا بعد إحكام الطوق عليها من كل الاتجاهات. وفي الذاكرة تصريح ديفيد بن غوريون رئس الوزراء الصهيوني في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي الذي اشترط لضمان كيانه العنصري المسخ تفكيك العراق وسوريا ومصر، على أسس إثنية ومذهبية، وقد تحوَّل ذلك إلى واقع ملموس. وفي هذا السياق، فإن الضغوط الأمريكية بتهجير الشعب الفلسطيني وتفريغ فلسطين من شعبها وتوسيع مساحة الكيان الصهيوني بحسب رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما هو إلّا خطوة على طريق استكمال الحلم الصهيوني بدولةٍ من النيل للفرات، تحت عنوان العدوان والتوسع من أجل الحدود الآمنة التي ليس لها حدود. قد يظن البعض أن قضية التهجير غير مُمكِنة استنادًا لتمسُّك الشعب الفلسطيني بأرضه من جانب، وموقف الشعبين والنظامين المصري والاردني الرافضيْن للتهجير من جانب آخر، كل هذا قد يبدو مُطمئنًا، غير أن ما يدور في العقل الإمبريالي والصهيوني من إجرامٍ ومكايدَ أكبر بكثير من المُخيِّلة العربية التي امتلأت بالنعرات المذهبية والقبلية والمناطقية والقُطْرِية، ولم يعد فيها خانات ذهنية ترى أبعد من قدميها. وليس أدل على ذلك من اجترار صراعات وأحداث جرت قبل ألف عام وكأنها وقعت بالأمس!!
لا شك أن قضية تهجير شعب بأكمله من أرضه في هذا العصر، ليست مسألة هينة، ولا يُمكن طرحها بشكل ارتجالي من قبل رئيس أكبر دولة في العالم دون سيناريوهات وبدائل مُضمَرة، وبما أن البُعد الذي يجري من خلاله استنهاض الحالة القومية الشاملة مُستبعد، فإن كل الاحتمالات ستبقى وارادة، ومن غير المُستبعد أن يكون الضغط من أجل القبول بالفكرة نفسها كمناورةٍ سياسيةٍ، ولما لا طالما النظام العربي الرسمي الذي يُجيد مهارة التفريط في الحقوق والثوابت، يتفهَّم من حيث المبدأ الهواجس الإسرائيلية وإن تطلب الأمر تهجير الأمة العربية قاطبة!
قد يَستهجن البعض مثل هذا التصوُّر ويجب استهجانه وإبطاله نهائيًا، غير أن ذلك لن يتأتى دون الارتقاء إلى مستوى التحديات. وقبل أيام قليلة اجتمعت كلٌ من مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر والسلطة الوطنية الفلسطينية في القاهرة، وأصدرت بيانًا من سبع فقرات؛ حيث تمت الإشادة بالجهود الأمريكية في التوصل الى هدنة بين المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس والعدو الإسرائيلي، ولا شك أن وقف العدوان الإسرائيلي بعد حرب إرهابية نازية لم يسبق لها مثيل دامت 15 شهرًا- تعرَّض خلالها الشعب الفلسطيني البطل لحرب إبادة جماعية وتطهير عرقي على يد العصابات الصهيونية الفاشية المجرمة وبمشاركة مباشرة من كل الدول الإمبريالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- حدثٌ مُهمٌ، غير أن الإشادة بالولايات المتحدة الأمريكية بعد كل تلك الجرائم لم يعد مفهومًا. والسؤال كيف نتوقع إفشال مخططاتها حيال التهجير وغيرها، في الوقت الذي يتم الإشادة بها واعتبارها مرجعية دولية موثوقة تسهم في إحلال السلام في المنطقة؟!
إنَّ مجاراة أمريكا والاشادة بها لا تنُم عن تقديرٍ سليمٍ لآليات المواجهة السياسية والدبلوماسية المرتقبة، ولعل من أهم الدروس في هذه المرحلة أن التطبيع الذي هو بالمفهوم الإسرائيلي مجرد وسيلة لاختراق العالم العربي سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، لن يستثني المُطبِّعين من الخطر الصهيوني.. والسؤال الأهم: ماذا بعد إسقاط العرب خيار الحرب وإسقاط إسرائيل خيار السلام؟