دوافع النقد الديني

 

 

 

بدر بن خميس الظفري

waladjameel@

 

في لحظات التأمل العميق، حين يتوارى الصخب اليومي خلف ستائر الليل، تبرز أسئلة لم يجرؤ الإنسان يومًا على طرحها علنًا، أسئلة تتعلق بالمُطلق وبالحقائق الكبرى وبالأفكار التي تلبّست شكل المقدّس لقرون طويلة.

يقترب الإنسان من هذه الأسئلة بحذرٍ، وكأنه يسير فوق حقل من الزجاج، يعلم أن خطوة واحدة خاطئة قد تكسره. لكنه، رغم ذلك، يسير. الفضول الإنساني لا يعرف القيود، والعقل يرفض أن يظل أسير الأجوبة الجاهزة. وهكذا، يولد النقد الديني، لا من رغبة في الهدم، وإنما من دوافع أصيلة للفهم.

وأول هذه الدوافع هو البحث عن الحقيقة؛ فمنذ القدم، كان الفكر الديني عُرضة للمراجعة وإعادة التفسير من العلماء والمفكرين، ليس من باب الرفض، وإنما من أجل تحقيق فهم أعمق يتماشى مع متغيرات الزمن. ابن رشد، مثلًا، لم يكن معاديًا للدين؛ بل سعى إلى تقديم قراءة عقلانية له تتماشى مع الفلسفة الأرسطية؛ مما جعله في صدام مع السلطات الدينية في عصره. كان يؤمن بأن العقل والدين لا يتعارضان؛ بل يُكمل أحدهما الآخر، وهذا ما أكده عندما قال: "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة". وقبله بقرونٍ، خاض المعتزلة تجربةً مماثلةً حين جعلوا العقل حجر الأساس في تفسير النصوص الدينية، ورأوا أن الإيمان لا يكتمل دون إعمال الفكر والتأمل، فكانوا من أوائل من مارسوا النقد الديني من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. وفي الفكر المسيحي، شهدت العصور الوسطى ظهور حركات فكرية سعت إلى إعادة النظر في بعض المفاهيم اللاهوتية، خاصة مع بروز الفلسفة المدرسية في أوروبا؛ حيث حاول مفكرون مثل توما الأكويني، التوفيق بين العقل والإيمان، مقدمين تفسيرات أكثر انسجامًا مع الفلسفة الأرسطية. هذه المحاولات تؤكد أن التفكير النقدي ليس خصمًا للدين، بقدر ما يكون وسيلة لفهمه بشكل أعمق وأكثر انسجامًا مع متغيرات العصر.

إلى جانب البحث عن الحقيقة، هناك من يجد نفسه مُضطرًا لمساءلة بعض المفاهيم الدينية بسبب تجربة شخصية قاسية. البعض نشأ في بيئات دينية مُتشددة؛ حيث كان الإيمان يُفرض عليه بأسلوب لا يسمح بأي نقاش. في مثل هذه البيئات، يُصبح الدين أداةً للسيطرة أكثر من كونه تجربة روحية، وحين ينضج الفرد ويبدأ في مساءلة تلك المفاهيم، قد يجد نفسه في مواجهة قاسية مع المجتمع. بعض هؤلاء لا يرفضون الدين، لكنهم يرفضون الطريقة التي يُقدَّم بها، ويرون أن هناك فجوة بين جوهر الدين وبين الواقع الذي يُفرض فيه على الناس.

وهناك من يمارس النقد الديني انطلاقًا من دوافع سياسية أو اجتماعية؛ حيث يرى أن الدين يُستخدم كأداة لتبرير السُلطة أو تقييد الحريات. في مثل هذه الحالات، لا يكون النقد موجهًا للدين ذاته؛ بل للطريقة التي يتم بها توظيفه لخدمة أغراض سياسية أو اجتماعية. هذا النوع من النقد قد يكون بناءً إذا طُرح بأسلوب هادئ وعقلاني، لكنه قد يثير الجدل إذا كان مدفوعًا برغبة في الصدام بدلًا من إيجاد حلول عملية للمشكلات المطروحة. وقد ظهر هذا النمط من النقد في مختلف المراحل التاريخية؛ سواء عند المفكرين الذين واجهوا استغلال السُلطة للدين، أو عند الإصلاحيين الذين سعوا إلى تحرير المجتمعات من القيود التي فرضتها المؤسسات الدينية التقليدية.

ومن جهة أخرى، هناك من يتأثر بالفكر الفلسفي والعلمي؛ مما يدفعه إلى مراجعة بعض المفاهيم الدينية التقليدية. ومع التطور السريع في العلوم، يجد بعض المفكرين أنفسهم أمام أسئلة معقدة تتطلب إعادة قراءة النصوص الدينية في ضوء المعرفة الجديدة. وكما قال الفيلسوف باروخ سبينوزا: "كلما سعى الإنسان إلى فهم الأمور بوضوح، ازداد تحرره من الخوف". وهذا يتفق مع ما ذهب إليه العديد من المفكرين المسلمين الذين رأوا أن الإيمان القوي لا يتعارض مع استخدام العقل، بل إن الفهم العميق للنصوص الدينية يجعل الإنسان أكثر قدرة على التحرر من الخرافات والمخاوف غير المبررة.

لكن النقد الديني لا يكون دائمًا نابعًا من رغبة مخلصة في الفهم أو الإصلاح. في بعض الأحيان، يتحول النقد إلى أداة للإثارة الإعلامية؛ حيث يُدرك البعض أن انتقاد الفكر الديني، خاصةً في المجتمعات المُحافِظة، يضمن لهم اهتمامًا واسعًا وردود فعل قوية. في مثل هذه الحالات، لا يكون الهدف هو البحث عن الحقيقة أو تصحيح المفاهيم؛ بل مجرد خلق صدمة اجتماعية بهدف تحقيق مكاسب شخصية أو بناء صورة معينة أمام الجمهور. ويتجاوز الأمر في بعض الأحيان حدود النقد العقلاني ليصبح هجومًا على الرموز الدينية والعلماء السابقين والمعاصرين، حيث يتم تصويرهم على أنهم رجال عاديون لا قيمة لهم، دون الأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية التي عاشوا فيها، والجهود العلمية التي بذلوها. هذا النهج لا يخدم النقاش الحقيقي، بل يعزز مناخ العداء والاستقطاب، حيث يتخذ الناس موقفًا دفاعيًا بدلًا من أن ينخرطوا في حوار فكري متزن.

وربما يكمن جوهر المشكلة في غياب معايير واضحة تميز بين النقد الموضوعي والتجريح العدائي. النقد الديني المقبول هو ذلك الذي ينطلق من البحث الجاد، مستندًا إلى الحجة والمنطق، ويهدف إلى الفهم والتطوير لا إلى الاستفزاز أو الهدم. أما النقد الذي يقوم على العبارات التعميمية والاتهامات الجاهزة، أو الذي يسعى إلى نزع القدسية عن كل ما هو ديني دون تقديم بدائل فكرية واضحة، فإنه يفقد قيمته كمساهمة حقيقية في النقاش. هناك فرق جوهري بين طرح التساؤلات المشروعة حول القضايا الدينية ومحاولة نزع الشرعية عنها من منطلقات أيديولوجية محضة، والتمييز بين هذين النوعين من النقد هو ما يحدد مدى تقبل المجتمع له. فالنقد الذي يُقدم بأسلوب علمي رصين غالبًا ما يجد له صدى، بينما النقد الذي يهدف إلى إثارة الضجيج سرعان ما يتحول إلى مجرد جدل عقيم.

المشكلة أن مثل هذه الأساليب تجعل المجتمع أكثر حساسية تجاه النقد الديني، حتى عندما يكون صادقًا وبنّاءً. فحين يتم تقديم النقد بأسلوب استفزازي، يصبح الجميع أكثر ميلًا إلى رفض أي محاولة للنقاش، بغض النظر عن نوايا الناقد. وفي النهاية، يتحول النقد إلى ساحة معركة بدلًا من أن يكون وسيلة للفهم والتطوير.

النقد الديني، إذًا، ليس ظاهرة جديدة، بل هو جزء من تطور الفكر البشري منذ القدم. لكن الفارق اليوم أن المجتمعات لم تعد تتقبل النقد كما كانت تفعل في عصور سابقة؛ حيث أصبح للنقد ثمن باهظ في بعض البيئات المحافظة. ويمكن للمرء أن يكون ناقدًا عقلانيًا، لكنه قد يجد نفسه متهمًا بالزندقة أو بالخيانة لمجرد أنه طرح تساؤلًا غير مألوف، وقد يقدحُ البعضُ في شكل الناقد وعرقه ونسبه وأصله وطائفته، كل ذلك من أجل تشكيل ضغط عليه لإسكاته.

ومع ذلك، فإن التاريخ يُعلِّمنا أن الأفكار لا تموت بالقمع، بل غالبًا ما تنمو في الخفاء، تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر من جديد. ويُخبرنا الواقع أنّ المجتمعات التي تتقبل النقد لا تخسر هويتها، بل تعيد اكتشافها من جديد، بينما تلك التي تحاربه تجد نفسها عالقة في الماضي، غير قادرة على مواجهة أسئلة المستقبل.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة