إرث الهُوية.. تمكين للمستقبل

 

 

خليل العبري

 

تتوالى الضربات على رأس المسمار فوق سطح السفينة على شواطئ مدينة صور العفية؛ لتُبحِر بعد ذلك وتبدأ رحلة التصدير والتعريف بمكونات الهوية العُمانية، والبضائع المحمّلة من التمور والليمون المُجفَّف، وغيرها من البضائع التي اعتاد التجار على تصديرها.

وسط صُراخ نواخذة السفينة وأمرهم بإنزال الأشرعة التي حيكت بأيدٍ عنوانها "لا تعرف للهزيمةِ سبيلًا"، حاملةً معها هوية الإنسان العُماني وثقافته، لتُصدرها للعالم من شرقه إلى غربه. كُل من كان جزءًا في صياغة تِلك السفينة يستظلون بظل هوية واحدة، لباس واحد، وهيئة واحدة. هويةٌ عُمانية يُغادر بها النواخذة شواطئ هذه الأرض المعطاءة؛ لتكون بمثابة العنوان الأبرز لسفنهم وسط تلك المحيطات.

إنَّ ارتباط مفهوم المواطنة ارتباطاً وثيقاً بين الإنسان والأرض التي ينتمي إليها تُكون علاقة تتخللها مجموعة من الحقوق والواجبات، وكذلك تخوِّله لأن يكون مواطنًا ذا صفة قانونية في وطنه، وكونه مواطنًا فلا بد أن يكون على أهبة الاستعداد لأي واجب يطلبه منه وطنه، أو ولي أمره، وذلك من منطلق قولِ الله العزيز في محكم كتابه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْاِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ اِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).

ومن جانب آخر، يُعزى مفهوم الهوية العُمانية دائمًا إلى مجموع الخصائص والسمات التي يُعرف بها العُمانيون داخل وطنهم وخارجه. وتُبدي تلك الخصائص روح الانتماء لديهم، وتكون السبيلَ دومًا إلى تقدم مجتمعهم وازدهاره. وقد تجذّرت روح الهوية في الإنسان العُماني واستقى الوطنيّة بتباين أطيافه، حتى أينعت ثمارًا يستلذ بها غيرهم في أخلاقهم، وزهورًا يتنعّمون فيها برحيق كلماتهم، وخير من يمثّل ذلك هم شعراؤهم، فقد أسهبوا بأجزل الشعر وأجمله في حب وطنهم وانتمائهم إليه، حينما تغنّى الشاعر العُماني ذياب العامري في قصيدتهِ المعروفة "أنتِ المحبة"، وجعل علاقته بعُمان علاقة الرباط المقدّس، الذي لا يُمكن أن ينفكَّ، فيقول:

ماذا يضيرك لو عشقتك مرة

وضممت قدك بكرة وأصيلا

 

وسدنت في محراب حبك خاشعا

أدعو الإله مرتلًا ترتيلا

 

أن يحفظ الود المقدس بيننا

وبأن تكوني الحب والتقبيلا

 

وبأن تكوني زهرة عطرية

لا تعرفين إلى الذبول سبيلا

والتاريخ العُماني الغني والمتنوع قد شكّل أسس الهوية العُمانية منذ الأزل؛ إذ تجسدت فيه قيم الهوية العُمانية والمواطنة من خلال التعاطي الشديد مع أعداء هذه الأرض، ولين التعامل مع الأصدقاء. فقد أثبت العُمانيون أنَّ هذه الأرض الطيبة الطاهرة لا تقبل أي نَفَسٍ خبيث يجعل الحقد عنوانًا له، وذلك من خلال تعاملهم مع مختلف المستعمرين الطغاة لهذه الأرض، فقدّم العُمانيون أنفسهم وأموالهم ذودًا عن تربة الوطن الطاهرة، وفي سبيل حرية هذه البقعة التي لا تنبت إلا طيبًا. وهذا الأمر لا يعدو إلا أن يكون تمثيلًا عن اعتزازهم وتمجيدهم لهويته السليمة وانتمائهم لوطنهم عُمان.

كذلك، كانت السفن العُمانية تجوب بحار العالم في الشرق والغرب لتحقيق الغايات الاقتصادية والسياسية والدينية لوطنهم ودينهم، فهذا هو الشيخ أحمد بن النعُمان الكعبي يُبحر في أول رحلة دبلوماسية بحرية عربية في عام 1840م. كل تلك الرحلات والمسافات الطوال لهي دليل على وعي العُماني في ذلك الوقت بأهمية تصدير هويته وتعريفها للعالم بأسره.

واليوم، وسط هذا الانفتاح الكبير في العالم، والوصول إلى مراحل متقدمة في مواضيع الذكاء الاصطناعي. لهو ذو أثر كبير وفرصة عظيمة لتجديد ترسيخ الاعتزاز بالهوية العُمانية. ويظهر ذلك جليًا من خلال الأدوار التي تقوم بها الحكومة الرشيدة في سبيل التسهيل والتيسير لحياة المواطنين اليوم، وذلك عبر تطوير أدواتها، وتحسين خدماتها بشتى أنواعها، باستخدام محركات الذكاء الاصطناعي المختلفة التي تصب مصالحها جميعًا للإنسان العُماني- بعون الله- الأمر الذي ينعكسُ إيجابًا على رضا المواطنين من خلال تعاملهم مع تلك الجهات المختلفة، وهو الأسلوب الذي يعزز في أنفسهم بأن انتماءهم واعتزازهم بوطنهم لهو محل تقدير لدى حكومتهم الرشيدة واهتمام منها.

ختامًا.. إنَّ تأكيد المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أعزّه الله- على ضرورة الحفاظ على عنصر الهوية العُمانية التي يُنظر إليها بصفة كونها لبِنة أساسية في بناء المجتمع العُماني وصمام أمان للمجتمع اليوم، وتوجيهه السامي إلى ضرورة التصدي لكل المخاطر والتحديات التي تواجه هذه اللبنة، هو كفيل بأن يُدرك المرء مدى أهميتهما في بناء المجتمع، والحفاظ عليه. فهي الدرع الحصين وخط الدفاع الأول الذي يحمي فلذات هذا الوطن الكريم وبُناتهَ، التي من مكوّناتها اللغة العربية، والدين الإسلامي إلى جانب السمات الشخصية للإنسان العُماني التي تكونت عبر العصور.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة