برمجة الأحياء.. الواقع والطموح والممنوع (7)

المسموح والممنوع في الأحياء التخليقية

 

 

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

هناك من يرى أن التخليق البيولوجي ما هو إلّا نسخة مُطوَّرة من أنشطة سابقة كان يقوم بها الإنسان ويتدخل فيها لتغيير بعض أجزاء الطبيعة لمصلحته، فزراعة أصناف معينة من النباتات غيّر البيئة بشكل كبير، كما إن التحكم في المزاوجة بين أصناف معينة من الفصائل الحيوانية هو تدخل مباشر لتغيير الطبيعة، وهكذا فإن التخليق البيولوجي يقوم بالشيء نفسه، لكنه يقوم بدقة أكبر ومستوى أعلى، وهؤلاء يرون أنه فارق في المستوى لا بالنوع بين ما كان يقوم به الإنسان سابقا وبين ما يقوم به اليوم في التخليق الحيوي.

ومقابل هؤلاء، هناك من يرى أن هذه النظرة فيها تسطيح وأن الفارق لا يكمن في المستوى؛ بل إن التخليق الحيوي أمر مختلف نوعيًا عن النشاطات السابقة التي كان يقوم بها الإنسان. ففي التخليق الحيوي يقوم الإنسان ويتدخل في صلب الخلية ويحاول التحكم بها، ليخلق لنا كائنًا بصفات معينة، فهذا الكائن شبيه في بعض اجزائه، بالأجهزة المصنعة، بحيث يصح أن نطلق عليه بأنه مصنّع، وهذا فارق جوهري بين الأنشطة السابقة التي كان يقوم بها الإنسان كالزراعة مثلًا وبين التخليق الحيوي، فالنباتات التي يزرعها الإنسان يعدها نباتات طبيعية ولا يمكن أن يصفها بأنها مصنّعة، أما النبات الذي يقوم الإنسان بالتلاعب بشفرته الوراثية وإعادة هندستها، فهو ينظر لها بمنظور مختلف، وتغدو نباتات مصنعة ولو في بعض أجزائها، ولذا أصبحت كرتنا الأرضية تحتوي على كائنات حية مصنّعة وأخرى طبيعية، وغدًا التفريق بينهما صعبًا مُستصعبًا.

وهناك من يرى أن السؤال المطروح أعمق بكثير ويتمثل في سؤال مفاده: هل الحياة بأنواعها المختلفة لها قدسية خاصة وقيمة عُليا، ولا يحق للبشر التدخل فيها بصورة مباشرة وتغييرها؟ أم أن هناك حدودًا وخطوطًا حمراء لا يصح لنا أن نتجاوزها؟ وكل محاولة لتجاوزها سيعد عملًا غير أخلاقي، واذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الخطوط الحمراء؟ ومن يحق له أن يضعها؟ أم أن الحياة بأصنافها المختلفة ليست أمرا مميزا عن بقية الأمور المصنعة أو الغير حية؟، ولذا فلا توجد محاذير أخلاقية من محاولات تغييرها وإعادة هندسة بعض أجزائها.

الملاحظ في الوقت الحالي أن أغلب التدخل البشري في هندسة الجينيات مقتصر على أنواع مختلفة من البكتريا والكائنات الدقيقة وبعض النباتات، ويبدو أن أغلب المجتمعات البشرية تعودت أو قد لا تجد حرجًا في التدخل البشري واجراء تغييرات جينية في هذه الكائنات الحية، لكن وبمالمقابل قد يعترض الكثيرون على محاولات اجراء تغييرات جينية في الحيوانات، كالدواجن والكلاب والقطط والخيول و الجمال.

إلّا أن هذا الاعتراض قد يخف بشكل كبير اذا قدمت ضمانات بأن التغييرات الجينية في الحيوانات سيعود بالنفع على الإنسان؛ وذلك لأن النظرة السائدة في أغلب المجتمعات البشرية هي ما يُمكن أن نعبر عنها بالنظرة النفعية، وهذه النظرة مفادها إنه لا يمكن اضفاء صفة أحادية على العلم برمته، بل لابد من النظر الى كل مشروع في هذا العلم على حدة، وتقييم المنافع والمخاطر منه، فاذا كانت منافعه كبيرة مقارنة بأضراره على الإنسان فلا مانع من الاقدام عليه، وأما إذا كانت أضراره أكبر فلا يصح الاقدام عليه، وهذه النظرة كما نلاحظ وضعت المصلحة البشرية هي الفيصل وكل ما يضر بها يعد خطًا أحمر لا يحق لأحد تجاوزه، وقد تبدوا هذه النظرة النفعية واضحة الا أن فيها من التحديات الشيء الكثير، لكن لابد من الإشارة هنا أن هذه النظرة النفعية لم تعد ترى قيمة مميزة للحياة بجميع أصنافها المختلفة -عدا الإنسان- فالإنسان هو المحور ومصلحته هي المقدمة على بقية الأمور، وهي الخط الأحمر الذي لا يحق لأحد أن يتجاوزه.

فهل حقا لا يوجد حق للكائنات الحية الأخرى فهي والآلة؛ سواء ما دام تغيير طبيعتها من خلال اجراء تغييرات جينية يصب في صالح الإنسان؟!

أترك للقارئ الكريم مجالًا للتفكير في هذا الأمر علّه يصل الى قناعات جديدة.

وللحديث بقية.

 

  • سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الأكثر قراءة