"وبشر الصابرين"

 

 

أنيسة الهوتية

قال تعالى في محكم كتابه العزيز، في سورة البقرة الآية 155: "وَلنَبلونكم بشيءٍ مِن الخَوفِ والجوعِ وَنقصٍ مِن الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وَبشر الصابرين" صدق الله العظيم.

والابتلاء اختبارٌ يُنزله الله تعالى على عبادهِ ليستخرج معدن إيمانهم الحقيقي، وقوتهم في التوكل على الله وإحسان الظنَ بهِ سبحانه عز وجل، وهو بالأغلبِ يحمل في طياته معنىً تربويًا من الخالق وله هدف وغاية إيمانية بحتة في صياغة وصقل المؤمن وإيصاله إلى أعلى الأهداف النورانية للاستشعار بالنور الإلهي في دواخلهِ الفكرية والذهنية والعاطفية.

والسحر العظيم الذي ليس فيه شك للتوفيق في هذه الحياة هو في إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، وكما روي في الحديث القدسي، قال الله تعالى: "أنا عند ظنِ عبدي بي إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله". حديث صحيح

وإحسان الظن بالله من القيم السامية التي يحث عليها دين الإسلام، ونتائجه عظيمة على المستوى الشخصي الذهني والفكري والعاطفي للفرد والتي من خلاله تؤثر على المجتمع وتجعله مثالًا لغيرهِ ممن يعانون الظلام في حياتهم حتى يضيئها لهم.

ومن أهم النقاط التي ينالها الإنسان عندما يرتقي إلى أعلى درجات إحسان الظن بالله، هي الطمأنينة وراحة البال والنفس، وإبعاد القنوط واليأس من قلبه واللذين هما بابين من أبواب وسوسة الشيطان لخلق الخوف والقلق والتوتر في حياة بني البشر، وبالتالي تحقيق السعادة الذاتية، والتشبع بالمحبة الإلهية التي تغنيهِ عن أي شيء آخر في الوجود.

وقد رأينا الكثير من الشخصيات التي بقوة إيمانها، وإحسان الظن بالله، تحولت من مجرد مادة كربون غير متبلور مثل السخام، أو جرافيت في طبقات متوازية كالمستخدم في أقلام الرصاص، إلى كربون نقي متميز بترتيب ذري مميز بذراته المرتبطة ببعضها البعض في شبكة ثلاثية إلى رباعية الأبعاد، حتى أصبح نقيًا مشعًا بالجمال وواحدًا من أصلب المواد الموجودة في الطبيعة حولنا.

وبالرغم من الظروف الجيولوجية التي كانت لا ترحم في عمق يتراوح بين 140 إلى 200 كيلومتر تحت الأرض، والضغط بقوة على قطع الكربون المسكينة تلك وتهيشمها، أو تذويبها بالحرارة العالية التي تتعدى 900 درجة مئوية وقد تصل إلى 1500 درجة مئوية، مع الضغط المرتفع جدًا من 45 إلى 80 كيلو بار، إلّا أن قطعة الألماس تلك إستطاعت أن تقاوم ذلك كله، ثم فاجأت كل تلك الظروف ببطولتها حتى لم يستطيعوا تحملها في جوف سواد الفحم المندثر والسارب من ضغطهم، حتى يتم لفظها عبر النشاط البركاني أثناء الثورات العميقة، حتى تخرج إلى السطح وهي بين أحضانِ صخور الكيمبرلايت البركانية النادرة والتي دائمًا بطبيعتها تحتضن المعادن المميزة، وتنقذها بإخراجها من جوف الأرضِ إلى سطحه ولو بعد مليون عام!

وبما أننا شبهنا الألماس بالإنسان الصبور، المؤمن، المتكل على الله، ومحسن الظن به سبحانه، فإننا هُنا نشبه صخور الكمبرلايت النادرة أيضًا بالإنسان المنقذ، الذي يخرج الألماس الخام من وحل السخام وظلمِ الظروف الجيولوجية عليها، حتى يتم استشكافها وصقلها لتكون في مكانٍ يُلائم بريقها وقوتها وصلابتها النادرة.

ولا اكتفي فقط بوصفهِ بالمنقذ، إنما هو كذلك إنسانٌ حباه الله وأكرمه بمَلَكةِ التصوير الضوئي واستيعاِب نوعيات الطبيعة البشرية، حتى أصبح ذا نظرة ثاقبة ومعرفة تامة بمعادنهم، والمُستخرج لكينونتهم الصافية لخدمة البشرية بما حباهم الله من رزق العلم، والدين، مكافئةَ لهم على صبرهم. وهؤلاءِ هم جنود الله في الأرض، وماجندهم الله إلا مكافأة لهم على إحسان ظنهم به سبحانه، فجعلهم أجمل الناس خُلقًا وخلقًا.

الأكثر قراءة