علي الرئيسي **
مع اختتام مجموعة "بريكس بلس" الاقتصادية قمتها التي استمرت 3 أيام في مدينة قازان الروسية يوم الخميس الماضي، من الصعب المُبالغة في تقدير الإمكانات المُتنامية للمجموعة لتغيير الحوار العالمي حول الحوكمة الجيوسياسية والتنمية الاقتصادية، وحتى إعادة توزيع السلطة.
لقد تضاعف عدد أعضاء مجموعة البريكس تقريبًا في العام الماضي؛ حيث اصطفت عشرات الدول من الجنوب العالمي للانضمام. وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الرئيس الحالي للمجموعة، يوم الخميس أن نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب جديداً يتشكل أمام أعيننا.
بالنسبة لروسيا على وجه الخصوص، يمثل هذا الاجتماع وسيلة بديلة للتأثير الدبلوماسي ومن الصمود الاقتصادي بعد تجميد علاقاتها مع الغرب تحت وابل مُكثف من العقوبات. والواقع أنَّ الاجتماع في قازان جعل عناصر رئيسية من أجندة روسيا الخارجية تبدو وكأنَّها طبيعية تقريبًا.
ولكن هذا يوضح أيضًا محدودية قدرة موسكو في التأثير على توجهات المجموعة. فقد رفضت أغلب دول مجموعة البريكس بهدوء الانضمام إلى أي إدانة حادة للغرب، أو دعم أي جهد شامل لبناء بديل كامل النطاق للنظام العالمي القائم.
وتضم مجموعة البريكس حالياً تسعة أعضاء: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إضافة إلى أعضاء جدد هم مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة. وحضر قمة قازان 36 زعيمًا عالميًا، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وأجرى معظمهم محادثات جانبية حميمة مع السيد بوتن وغيره من المُشاركين.
وأصدرت الكتلة بيانًا توافقيًا من 43 صفحة، أُطلق عليه "إعلان قازان"، والذي حدد مطالب لإصلاح المؤسسات العالمية الرئيسية؛ بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين التي تتألف من الدول الغنية والنامية الرائدة.
لكن ما يُثير قلق أنصار النظام الحالي الذي يقوده الغرب هو أنَّ هذا القرار يُندد بشدة بـ"التأثيرات التخريبية" التي تخلفها "العقوبات غير القانونية" على الاقتصاد العالمي. كما يضع القرار ما قد يُنظَر إليه على الأقل باعتباره بداية لهيكل بديل للتمويل والتجارة بين أعضاء المجموعة والشركاء من شأنه أن يتجنب استخدام الدولار الأمريكي. كما ينص القرار على إنشاء بنك للتنمية لتوفير التمويل للتنمية الاقتصادية على أسس أكثر عدالة مما هو متاح في النظام المالي الحالي.
يقول دميتري سوسلوف الخبير في العلاقات الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو: "إن ما يدفع نمو مجموعة البريكس هو أولًا، عدم رضا العديد من البلدان عن النظام العالمي الذي تُهيمن عليه الولايات المُتحدة. لقد سئم الناس من عملية تسيس الدولار الأمريكي، وهناك شعور عام بأنَّ النظام الأمريكي مصمم خصيصًا لخدمة المصالح الغربية في المقام الأول".
ويضيف سوسلوف أن مجموعة البريكس تُعَد أداة لتمكين التغيير نحو نظام يجسد "التعددية القطبية دون هيمنة". ورغم أنَّ الدول العشرين أو أكثر التي تسعى إلى الانضمام إلى المجموعة متنوعة للغاية- وفي بعض الحالات هم أعداء بالمعنى الحرفي للكلمة- فيما يتصل بقضايا الحوكمة العالمية، إلا أنه يصر على أنها متفقة في الرأي.
بالنسبة للرئيس بوتن، فإنَّ الفائدة المباشرة والأكثر وضوحاً من قمة قازان هي أنها قدمت دليلًا مُقنعًا على أنه على الرغم من الجهود المتضافرة من الغرب، فإن روسيا ليست معزولة، وهي رسالة لم تغب عن وسائل الإعلام الغربية. وتوفر دول مجموعة البريكس والجنوب العالمي بالفعل شريان حياة اقتصادي لروسيا المتضررة من العقوبات، من خلال شراء الطاقة وتزويدها بمجموعة من السلع التي لم يعد من الممكن الحصول عليها مباشرة من الغرب.
لكن ما ترغب روسيا وإيران التي تعاني من العقوبات، وبدرجة أقل الصين، في رؤيته هو التحرك السريع نحو أنظمة دفع وشبكات مصرفية بديلة محصنة تمامًا ضد العقوبات. ومن الممكن أن تتوج مثل هذه الخطة بتطوير عملة مجموعة البريكس القادرة على المنافسة الكاملة مع الدولار الأميركي واليورو كوسيلة للدفع وتراكم المدخرات. وهي مهمة شاقة، ولا تهم كثيرًا الأعضاء الكبار في المجموعة مثل الهند والبرازيل.
ومع ذلك، يبدو أن أغلب بلدان الجنوب والشرق مُستعدة لاستخدام العملات الوطنية وغيرها من وسائل الدفع التي تتجنب الدولار، كما تقول إيرينا ياريجينا، الخبيرة المصرفية في معهد موسكو الحكومي الدولي للأبحاث الاستراتيجية، وهي جامعة مرتبطة بوزارة الخارجية الروسية. وتضيف أن المعاملات بالدولار بين البلدان المرتبطة بمجموعة البريكس انخفضت إلى 38% فقط من الإجمالي في السنوات الأخيرة.
قبل الاجتماعات الرئيسية، تم توزيع بطاقات "بريكس للدفع" محملة بمبلغ 500 روبل (5.20 دولار) على الزوار في منتدى أعمال البريكس في موسكو. ووصفت وسائل إعلام مصرية وجنوب أفريقية البطاقات بأنها بمثابة إيماءة ترويجية رمزية بدلًا من الإشارة إلى وجود نظام حي. ومع ذلك، فإن ذلك يذكر بمبادرة أخرى- لربط أنظمة الدفع المحلية- والتي لم تحقق الزخم المطلوب، وفقًا لتقرير حديث لمجلة فوربس روسيا.
كما تلاشت المُناقشات حول سلة العملات المُشتركة لمجموعة البريكس، ويرجع ذلك في الأساس إلى اعتبار ذلك أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، أشار بيان مجموعة "بريكس بلس"إلى استكشاف "أدوات ومنصات للدفع"، والتي قد تشمل إما سلة أو على الأرجح عملات رقمية للبنوك المركزية بالعملات المحلية.
وفي الآونة الأخيرة، كان التركيز الرئيسي على "البريكس للتجسير" القائم على تقنية السجل الموزع كوسيلة لتمكين معاملات العملة المحلية، وربما مع العملات الرقمية للبنوك المركزية. إن استخدام كلمة تجسير هو إشارة إلى تجسير العملات الرقمية وهو نظام الدفع عبر الحدود الذي طورته بعض دول مجموعة البريكس، والذي وصل إلى مرحلة المنتج النهائي القابل للتطبيق. والجدير بالذكر أن المجموعة في طور إتاحة كود تجسير العملات، مما قد يسهل على أعضاء مجموعة البريكس تبنيه. وعلى عكس البريكس للدفع، فإن تجسير العملات الرقمية عبارة عن بنية أساسية للدفع في الخلفية ترتبط بأنظمة مصرفية قائمة.
ولكن في الأمد القريب، يتلخص الهدف في استخدام تسوية العملة المحلية كجزء من شبكة البنوك المراسلة القائمة. وقد أكد على ذلك البيان المشترك الرسمي لمجموعة البريكس بلس.
وتضمن البيان الختامي للقمة فقرة حول دراسة "البنية الأساسية لإيداع وتسوية الأوراق المالية في دول البريكس" والتي من شأنها أن تكون بديلًا للبنى الأساسية الغربية مثل مركز دبي للسلع المتعددة، ويوروكلير، وكليرستريم. وقد تم طرح هذه الفكرة في السابق في ورقة روسية تم تداولها قبل الاجتماعات. وذكرت وكالة بلومبرج أن البعض ينظر إلى هذه الفكرة باعتبارها مبادرة من روسيا وإيران، في حين أنَّ أعضاء آخرين في مجموعة البريكس قد يكون لديهم رغبة أقل في ذلك.
على كلٍ.. يذكر المراقبون أن "بريكس" ما تزال بعيدة عن تهديد النظام المالي السائد، وأنظمة الدفع المُهيمَن عليها من أمريكا والغرب حتى الآن، ولكن في غضون الخمس إلى العشر سنوات المقبلة فإن هذا التحدي سيكون جديًا.
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية