سالي علي
الإبداع ليس مجرد موهبة؛ بل هو بمثابة وسيلة للتحرر؛ إذ يمنح الأفراد القدرة على التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكلٍ فريد؛ مما يساعدهم على اكتشافِ هويتهم وتجاوزِ القيود الاجتماعية أو الثقافية.
وهنا يطرحُ السؤال نفسه، كيفَ يُسهم الإبداع في التحرر؟
يسهم من خلال تعبير الذات حيث يُمكن للإبداع أن يكون وسيلة للتعبير عن الأفكار والمشاعر التي قد تكون غير مقبولة في بعض المجتمعات، مما يساعد الأفراد على التحرر من القيود المفروضة عليهم، ومن خلال استكشاف الناس للهوية وذلك من خلال فهم أنفسهم بشكلٍ أفضل مما يعزّز الشعور بالتحررٍ الداخلي. كما إنّ تغيير المفاهيم يُمكّن الأعمال الإبداعية لأن تتحدى الأعرافَ السائدة وتفتح بابَ النقاش حولَ مواضيع قد تكون محظورة أو مُهملة مما يُسهم بتغيير المفاهيم الاجتماعية والثقافية، علاوة على أن تنمية التفكير النقدي يعزّز ويشجّع الأفراد على طرحِ الأسئلة والتفكير بشكلٍ مستقل مما يساعدُ في التحرر من التفكير النمطي ويُمكن الأفراد من اتخاذ خطوات نحو التحرر الشخصي.
لذا يُمكن اعتبار الإبداع أداة قوية للتحرر من القيود والضغوط، ويساهم في تحقيق الذات وتطوير المجتمعات.
وأحد أهم الكتاب الذين تناولوا فكرة الإبداع يحرر الإنسان من عقده هو الفيلسوف النمساوي سيجموند فرويد، مؤسس علم النفس التحليلي، في نظرياته حول التحليل النفسي اعتبر فرويد أنّ الأنشطة الإبداعية مثلَ الفن والأدب تعملُ كآليات دفاعية، حيث يمكن للفرد من خلالها التعبير عن رغباته المكبوتة وصراعاته الداخلية بطرقٍ مقبولة اجتماعيًا.
ويُشير فرويد إلى أنّ الإبداع يسمحُ للإنسان بتحويل طاقاته النفسية إلى مخرجاتٍ فنية أو أدبية، وبالتالي تحررهُ من الضغوطِ والصراعات النفسية.
وهنا كارل يونغ عالم النفس الشهير وتلميذ فرويد السابق، والذي أشار في نظرياته إلى أن الإبداع هو وسيلة لتحقيق التكامل النفسي، حيث يمكن للأفراد التعبير عن اللاوعي الجمعي من خلال الرموز والإبداع، مما يساعدهم في التحرر من الصراعات الداخلية وتحقيق التوازن النفسي.
أيضًا، تناول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه هذه الفكرة، فهو رأى أن الإبداع والتحول الذاتي بمثابة وسائل أساسية للتحرر من القيود الاجتماعية والأخلاقية التقليدية، والوصول إلى تحقيق الذات
وفي الأدب يمكن أيضًا الإشارة إلى هربرت ماركوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"؛ حيث تناول فكرة أن الإبداع هو طريقة للتحرر من المجتمع الرأسمالي الصناعي والقيود التي يفرضها على الفرد، وهو يرى بأن الإبداع يمكن أن يكون أداة للمقاومة والتحرر الشخصي والاجتماعي.
ومن هنا فإن الكثير من الكتاب والفلاسفة، تناولوا مفهوم الإبداع كوسيلة للتحرر من القيود النفسية والاجتماعية، فمنهم من ركز على الجانب النفسي ومنهم من ركّز على الجانب الفلسفي أو الاجتماعي.
سيجموند فرويد تناول فكرة الإبداع وتحرير الإنسان من عقده في عدة أعمال، ومن أبرزها كتاب "مستقبل وَهْمٍ"، وفي هذا الكتاب يشير فرويد إلى أن الأنشطة الإبداعية وبما في ذلك الفنون والكتابة تُعبر عن محاولة الإنسان للبحث عن السعادة والهروب من الواقع القاسي. ويوضح فرويد كيف يمكن للإبداع أن يكون متنفسًا للرغبات المكبوتة ويُساهم في تخفيف التوترات النفسية.
وهناك كتاب "التعبير الفني والتحليل النفسي"، وفي هذا الكتاب، يناقش فرويد كيف يمكن للأعمال الفنية والأدبية أن تكون بمثابة تنفيس عن الرغبات المكبوتة والأفكار المكبوحة في اللاوعي. ويرى أنّ الإبداع يتيحُ للإنسان التعامل مع التوترات والضغوط النفسية من خلال تحويلها إلى أشكالٍ رمزية في الفن أو الأدب مما يُحرره من هذه الصراعات.
كما إن نظريته عن التحويل (Sublimation) في إطار التحليل النفسي، طرحت مفهوم التحويل وهي عملية يوجه فيها الفرد رغباته المكبوتة والطاقة النفسية الناجمة عنها إلى أنشطة مقبولة اجتماعيًا، مثل الفن أو العلم. ويعتبر فرويد أن هذه العملية تُمكّن الإنسان من تحويل الطاقة النفسية المكبوتة إلى إبداعات مفيدة، مما يساعد في تقليل الصراعات الداخلية.
وفي دراسته عن ليوناردو دافنشي، يقدم فرويد تفسيرًا نفسي لسيرة الفنان ليوناردو دافنشي، موضحًا كيف أنّ إبداع ليوناردو يمكن تفسيره كعملية تحويل لرغباته المكبوتة وطاقته النفسية إلى إبداعات فنية، مما يُظهر الجانب العلاجي للإبداع في التغلب على الصراعات الداخلية.
يشير فرويد إلى أنّ الإبداع ليسَ مجرد موهبة؛ بل وسيلة للإنسان للتعبير عن صراعاته الداخلية والتخفيفِ من عقده النفسية عبر تحويل طاقاته ورغباته المكبوتة إلى أعمال إبداعية.
وختامًا يمكن القول إنّ الإبداع ليس مجرد نشاط فني أو فكري؛ بل هو أداة نفسية فعّالة يستخدمها الإنسان للتعبير عن صراعاته الداخلية وتجاوز قيوده النفسية من خلال تحويل الرغبات المكبوتة والصراعات إلى أشكال إبداعية مقبولة اجتماعيًا، يحقق الفرد نوعًا من التحرر الداخلي يعزز من توازنه النفسي ويدفعه نحو تحقيق ذاته
ولقد رأى فرويد في الإبداع عملية تنفيس وتحرير؛ حيث يمكن للفرد عبره أن يتصالح مع رغباته المكبوتة ويعيد تشكيل عالمه النفسي؛ مما يجعل الإبداع في نهاية المطاف وسيلة جوهرية للتحرر النفسي والإنساني.