أ.د. أمين فوتشيمينغ **
مرَّت العلاقات الصينية العربية بمحطات تاريخية مختلفة، لكن من أهم تلك المحطات -من وجهة نظري- هو التواصل التجاري والثقافي عبر طريق الحرير التاريخي، والتي كانت دولة عُمان من أهم محطاته قديمًا، ومع إطلاق الرئيس الصيني مبادرة الحزام والطريق عام 2013، أصبحت دولة عُمان الصديقة شريكا فاعلا في تلك المبادرة، كما كانت قبل ذلك، وهو الأمر الذي دفع التعاون بين البلدين ليصل إلى مراحل غير مسبوقة.
وعندما نتطلع إلى أسباب متانة العلاقات بين الصين وعُمان، سنجد أن التعاون العلمي والثقافي كان له دورًا قويًا في ذلك، وبصفتي أستاذا لكرسي السلطان قابوس بجامعة بكين، أود أن أشارك القراء من دولة عُمان والدول العربية الصديقة بعض المجهودات التي قمنا بها في إطار دفع التعاون التعليمي والثقافي بين الصين وعُمان، هذه الجهود التي بدأت بحفل افتتاح كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية بجامعة بكين عام 2007، وامتدت على مدار أكثر من 17 عامًا ليكون هذا الكرسي واحدًا من "الجسور الجديدة لتعزيز الروابط الثنائية الصينية العُمانية"، وخلال تلك المدة تنوعت أنشطة كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية بجامعة بكين، سنذكر في مقالنا هذا أربعة محاور من تلك النشاطات، وهي محور التأليف العلمي ونشر الكتب، ومحور الترجمة، ومحور إعداد ونشر المحتويات العلمية، ومحور النشاطات الطلابية.
أولًا: تأليف الكتب
تضع جامعة بكين التأليف العلمي ونشر الأبحاث العلمية على قائمة أولويتها، وهو ما جعله على قائمة أولويات كرسي السلطان قابوس في جامعتنا أيضًا، وقد حرصنا أن تكون هناك شروط واضحة للمؤلفات العلمية التي يدعمها كرسي السلطان له، وهي أن يكون لها علاقة مباشرة بالعلاقات الصينية العُمانية، وأن يقوم بها علماء لهم باع في هذا المجال، ويتمتعون بسمعة علمية قوية، أو أن تساعد هذه المؤلفات على نشر الثقافة واللغة العربية، أو أن تسهم في نشر الثقافة العُمانية في الصين، أو نشر الثقافة واللغة الصينية باللغة العربية. وسنستعرض في حديثنا هنا بعض أبرز المؤلفات التي وقع الاختيار عليها لتحظى بالدعم والنشر، المؤلف الأول هو (تاريخ العلاقات بين الصين وسلطنة عُمان)، وهو كتاب من جزأين، يغطي تاريخ علاقات الصين وسلطنة عُمان منذ القدم وحتى وقتنا هذا، وقد كلفت ثلاثة من أبرز علماء جامعة بكين، وهم وانغ شياوفو، وَوُو يوجوي، ولي آنشان، قبل ثماني سنوات بإجراء بحوث مشتركة حول "تاريخ العلاقات بين الصين وسلطنة عُمان" وتأليف كتاب يضم نتائج تلك الدراسات، وقد عمل الثلاثة بشكل منفصل، وتوصلوا إلى أن مكانة عُمان ودورها في النقل بين الشرق والغرب في العصور القديمة قد تم التقليل من شأنها لفترة طويلة، ولم تحظى بالاهتمام الأكاديمي اللازم، ولم يتم الكشف عن مكانة عُمان التاريخية ودورها في التواصل بين الشرق والغرب في العصور القديمة بشكل كامل، وجاءت دراستهم بنتائج عديدة، منها ما توصل له البروفيسور وانغ شياوفو وذكره في مقدمة الجزء الأول من كتاب (تاريخ العلاقات بين الصين وسلطنة عُمان)، قائلًا: "وعندما وصل جمع البيانات والعمل البحثي إلى مرحلة معينة أدركت حقيقة تاريخية؛ وهي أن التبادل الثقافي القديم بين الشرق والغرب- أشير هنا بشكل أساسي إلى عملية التواصل والتبادل بين الصين القديمة وغرب آسيا، وجنوب شبه الجزيرة العربية، ومنطقة عُمان على وجه الخصوص - له مكانة خاصة ودور بالغ الأهمية؛ ففي الفترة التي سبقت ظهور الإسلام لم يكن النقل البحري عبر عُمان تابعًا للنقل البري، بل كان طريقًا رئيسيًّا للنقل بين داتشين (الإمبراطورية الرومانية) والصين، أي غرب آسيا وشرقها، وحتى بعد قيام الخلافة العربية الإسلامية وحتى وقت رحلات تشنغ خه إلى الغرب، ولأسباب فنية كان الطريق البحري بين الصين وغرب آسيا لا يزال طريقًا بحريًّا أساسيا، وكانت عُمان لا تزال مركزًا للنقل الدولي بالنسبة له، ويعد هذا الطريق مركزًا للنقل بين الشرق والغرب؛ حيث كانت عُمان في الواقع مركزًا تجاريًّا دوليًّا في ذلك الوقت".
والجزء الأول من الكتاب يركز على بداية العلاقات بين البلدين وحتى تاريخ رحلات تشنغ خه إلى الغرب، أو التاريخ القديم للعلاقات بين البلدين، وخاصة التبادلات بين البلدين عبر طريق الحرير البحري، ويضم الجزء الأول أربعة أبواب، تقع في أكثر من 300 صفحة، وكانت أسباب اختيار البروفيسور وانغ شياوفو لتأليف الجزء الأول من الكتاب هو أبحاثه السابقة حول التبادلات الثقافية الصينية والأجنبية القديمة على طريق الحرير البري، والتي نشرت في مجلات علمية شهيرة في الصين.
أما الجزء الثاني من الكتاب فقد وقع اختيارنا على البروفيسور لي آنشان، ليقوم بتأليفه، وهذا الجزء يسلط الضوء على العلاقات بين الصين وسلطنة عُمان في الفترة ما بين القرون الوسطى وحتى مبادرة الحزام والطريق، أو التاريخ الحديث والمعاصر للعلاقات بين البلدين، ويضم هذا الجزء خمسة أبواب، ويقع في أكثر من 200 صفحة.
وقد نشر هذا الكتاب باللغة الصينية وباللغة العربية في نفس الوقت، فالنسخة الصينية من الكتاب نشرت في أكتوبر من هذا العام، والنسخة العربية، قمت أنا والدكتورة رحاب محمود، رئيس قسم اللغة الصينية بجامعة القاهرة، والدكتور علاء ممدوح عاكف الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية بجامعة بكين، وباحثة الدكتوراه في قسمنا لو بي تشون، بترجمة جزأي الكتاب إلى اللغة العربية، ونشر أيضا في أكتوبر من هذا العام، بالتعاون مع دار الأنجلو المصرية الشهيرة، والتي رحبت بنشر هذا الكتب، كونه سيثري المكتبة العربية، بكتاب بحثي شديد الأهمية، يوضح التبادلات التجارية والثقافية بين الدول العربية والصين.
والكتاب الثاني الذي دعمه كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية بجامعة بكين هو كتاب (المقالات الفائزة في مسابقة جامعة بكين للمقال العربي عام 2023)، وهذا الكتاب يجمع بين دفتيه، المقالات الحائزة على جوائز مسابقة المقال العربي التي نظمتها جامعة بكين، وقد حظيت مسابقة المقال العربي التي نظمتها جامعة بكين في نسختها الرابعة عام 2023 باهتمام عريض في الأوساط الأكاديمية الصينية؛ لأنها تحمل عنوانًا مهمًّا للغاية وهو "الذكرى العاشرة لـ"مبادرة الحزام والطريق" .. الحصاد والتطلعات". فكان عنوان المسابقة ملهمًا لطلاب أقسام اللغة العربية في كل أنحاء الصين، فتوالت على اللجنة المنظمة المقالات المشاركة من أكثر من 30 قسمًا للغة العربية منتشرين في كل ربوع الصين، لتصل إلى أكثر من مئتي مقال في أقل من شهرين. ونظم قسم اللغة العربية أكثر من لجنة لفرز وتقييم المقالات، واعتمد على معايير علمية مختلفة، لتحديد المقالات التي تستحق الفوز، وبعد التحكيم الذي استغرق أكثر من شهر ونصف الشهر، حصد ثمانية وثلاثون مقالًا المراكز الثلاثة الأولى؛ ستة منها في المركز الأول، واثنا عشر مقالًا في المركز الثاني، وعشرون في المركز الثالث.
ورأت لجنة التحكيم منح جائزة التميز لطالب الفرقة الثالثة في قسم اللغة العربية بجامعة بكين، واسمه العربي "جميل"، والصيني "شيوي تشنغ تشه"، لمشاركته في مسابقة المقال العربي ثلاثة أعوام متتالية، وحصوله على المركز الأول لثلاثة أعوام متتالية. وهو الطالب الذي قضى إجازة الصيف لعامه الدراسي الثاني في دراسة اللغة العربية في سلطنة عُمان، وقد تركت تلك الفترة أثرًا عميقًا فيه، فجاءت مقالاته تعبر عن تأثره بتلك الفترة، وكيف أنها غيرت نظرته إلى الأمة العربية. خاصة، عندما لمس بنفسه كرم الشعب العُماني، وتسامحهم، وانفتاحهم في التعامل معه، فجاءت مقالاته كلها مليئة بقصص من تلك الفترة، وكيف أنه كون صداقات هناك لا تنسى، وما زال يتواصل مع أصدقائه هناك حتى الآن، ليتعرف أكثر على الثقافة العربية.
وقد شكَّل قسم اللغة العربية في جامعة بكين لجنة علمية مكونة من أربعة خبراء لجمع وتنسيق ومراجعة المقالات الثمانية والثلاثين الفائزة بالمراكز الأولى، واللجنة مكونة مني، ومن الأستاذ الدكتور عثمان رئيس قسم اللغة العربية، والأستاذ المساعد الدكتور جواد نائب رئيس القسم، والأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية علاء ممدوح عاكف، كما استعانت بخبرات الدكتور محمود إمام، المدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة والخبير بمجمع اللغة العربية، لتدقيق المقالات دون تعديل في المعنى، والحفاظ -قدر المستطاع- على اللغة الأصلية لكل مقال، على أن يقتصر التعديل اللغوي على الأخطاء الإملائية والنحوية التي تجعل الجملة غير مفهومة. وهي المهمة التي قام بها الدكتور محمود على أكمل وجه. وفي النهاية، استقرت اللجنة أن يضم الكتاب المقال العربي الفائز واسم الطالب كاتب المقال وجامعته، والترجمة الصينية للمقال.
وقد دعم كرسي السلطان قابوس في جامعة بكين نشر هذا الكتاب بالتعاون مع مكتبة الأنجلو المصرية، وننوي أن ندعم نشر مقالات مسابقة هذا العام، حتى نشجع دراسي اللغة العربية أن يكونوا أداة فاعلة في دفع العلاقات بين الصين والدول العربية، بعدما رأيناه من إقبال الطلاب على تلك المسابقة، وموضوعات مقالاتهم المبتكرة التي أشاد بها جميع المحكمين من الأساتذة العرب والصينيين.
ثانيًا: الترجمة
تعد محاولات الترجمة من الصينية إلى العربية أو من العربية للصينية، واحدةً من أقدم وأهم الطرق للربط بين الحضارتين الصينية والعربية، وقد دعَّم كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية في جامعة بكين العديد من الكتب المترجمة من العربية إلى الصينية ومن الصينية إلى العربية، نذكر منها كتاب "فلسفة الحياد العُماني.. إجابات الماضي على أسئلة المستقبل" الصادر عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر؛ وهو الكتاب الذي قمتُ بترجمته أنا وفريق من المترجمين، أخترتُهم بنفسي، ليقوموا بترجمة محتوى كتاب هام للغاية في السياسة الخارجية لعُمان, وقد وقع اختيارنا على هذا الكتاب بالتحديد، لأنه يساعد القارئ الصيني في التعرف على السياسة الخارجية الصينية، ويكون مرجعًا علميًا للباحثين في شؤون الشرق الأوسط في الصين، وخاصة وأن مؤلفه هيثم الغيتاوي، يُجيب على أسئلة مُهمة مثل: متى بلور السلطان قابوس فلسفته الخاصة للتفريق بين معاني "الحياد الإيجابي" و"التخندُق"؟ ما هي الأحداث التاريخية التي صقلت الخبرات الدبلوماسية والسياسية للسلطان هيثم بن طارق خلال فترة عمله بوزارة لخارجية؟ كم استغرقت الدبلوماسية العُمانية لحسم "الميراث الحدودي الغامض" في عهد "الصبر المدروس"؟ لماذا كانت عُمان أكثر واقعية في تمسكها بالصيغة الحالية لمجلس التعاون الخليجي؛ دون شعارات "شعبوية" على حقائق الواقع؟ كيف نجحت التجربة العُمانية في بناء هوية وطنية متسامحة؛ وسط محيط إقليمي يتغذى على صناعة القلق والتوتر؟ هذا الكتاب يضم 107 آلاف كلمة، مكون من ستة أبواب، و100 عنوان ومحور بحثي، وقد انتيهنا من ترجمة هذا الكتاب، وحاليًا نقوم على مراجعة الترجمة، وسنقوم بالتعاقد مع واحدة من أفضل دور النشر الصينية لنشر هذا العمل باللغة الصينية في أقرب فرصة.
ومن الأعمال المترجمة من العربية إلى اللغة الصينية، ونشرت بالفعل هي الكتب السنوية لعُمان (2016- 2017- 2018- 2020)، والصادر عن وزارة الإعلام العُمانية.
أما بالنسبة للكتب المترجمة من الصينية إلى العربية فقد دعم كرسي السلطان قابوس كتب عديدة نذكر منها على سبيبل المثال لا الحصر، كتاب (الثقافة الصينية)، وهو كتاب صيني شهير، جمع المؤلف فيه أهم الموضوعات التي تميز الأمة الصينية، والتي تعتبر نقاط مضيئة في الثقافة الصينية، وقدم تعريفات محددة وعميقة ودعم تلك التعريفات بأمثلة ومعلومات كثيرة، سعيًا وراء أبراز القيم الجوهرية للثقافة الصينية، ويتكون الكتاب من أربعة أجزاء، تدور حول الحكمة والعقيدة، الإبداعات والتبادلات، الفن والجمال، التقاليد الشعبية والأعراف الاجتماعية، وتحتوي الترجمة العربية على قرابة 400 صفحة تقريبا، نقلها من الصينية البروفيسور تشانغ جيا مين، وهو واحد من أشهر خبراء قسم اللغة العربية بجامعة بكين. وقد ترجم البروفيسور تشانغ جيا مين أيضًا كتاب مهما هو (تاريخ العلاقات الصينية العربية)، وهو الكتاب الذي يحتوي على النص الصيني وترجمته العربية، وقد قام بتأليف المحتوى الصيني، البروفيسور قوه ينغ ده، والذي له مؤلفات عديدة في التاريخ العربي، وتاريخ العلاقات الصينية العربية، وقد نشر هذا الكتاب بدار نشر جامعة بكين عام 2015، بدعم من كرسي السلطان قابوس بجامعة بكين.
ومن أهم الكتب التي دعمها كرسي السلطان قابوس في جامعة بكين، والتي ستنشر قريبًا، هو كتاب (الحرف اليدوية العُمانية) هذا الكتاب الذي قام الأستاذ الدكتور شيه تشي رونغ وأنا بترجمته من اللغة العربية إلى اللغة الصينية، والكتاب يعتبر موسوعة ستضع بين يدي القارئ الصيني جميع الحرف اليدوية العُمانية، والكتاب مزود بالصور الموضحة لمنتجات كل صناعة، هذا الكتاب استغرق منا وقت طويل في ترجمته، نظرًا لصعوبته، وقد قمنا برؤية العديد من تلك الصناعات اليدوية أثناء زيارتنا المتكررة لعُمان، وهو الأمر الذي سهل علينا كثيرًا فهم تلك الصناعات، والوقف على أسرارها وجمالها وتأثيرها في المجتمع العُماني قديمًا وحديثًا، مما انعكس على ترجمتنا لهذا الكتاب، الذي زودناه بالكثير من الحواشي، ليكون مرجعًا للمهتمين بالفن العُماني ولمحبي الفن العربي.
كما قمنا بترجمة ونشر كتاب (وثائق مكافحة كوفيد-19) هذا الكتاب الذي يجمع بين دفتيه الترجمة العربية لوثائق مكافحة كوفيد -19 التي أصدرتها لجنة الصحة الوطنية الصينية، ومن بين هذه الوثائق النسخ الست من آليات الوقاية من الالتهاب الرئوي الناجم عن فيروس كورونا المستجد ومكافحته، والنسخة التجربية السابعة لآليّات تشخيص الالتِهاب الرّئويّ النّاجِم عن فيروس كورونا المُستَجَدّ وعلاجُه وغيرها من المرفقات. وعمل على ترجمة النسخة العربية لوثائق مكافحة كوفيد -19 الصينية فريق ترجمة به أكثر من عشرين أستاذًا وطالبًا من قسم اللغة العربية بكلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين بالتعاون مع كلية الآداب في جامعة القاهرة والمعهد العالي للغات بتونس في جامعة قرطاج، في الفترة بين مارس وحتى مايو 2020، قام خلالها فريق الترجمة بترجمة قرابة 100 ألف رمز صيني، في أكثر من 300 صفحة. وأصدر قسم اللغة العربية أول مرة النسخة العربية من وثائق مكافحة كوفيد 19 في السادس من مايو عام 2020، وطبع القسم نسخًا ورقية من هذه الترجمة ووزعها على سفارات الدول العربية ومكتب جامعة الدول العربية لدى الصين، لنقل الخبرات الطبية الصينية في هذا المجال لأصدقائها في الدول العربية. وقد صدرت نسخة ورقية من هذا الكتاب عام 2023، بالتعاون مع مكتبة الأنجلو المصرية.
ثالثًا: إعداد ونشر المحتويات العلمية
دعم كرسي السلطان العديد من المحتويات العلمية المميزة، نذكر من بينها قاموس اللغة العربية الصينية، وهو أول قاموس عربي صيني في الصين، صدر عن قسم اللغة العربية بجامعة بكين في القرن الماضي، وقد دعم كرسي السلطان أعمال تطوير هذا القاموس، لتصدر النسخة الثانية منه عام 2008 بالتعاون مع دار نشر جامعة بكين، وقد نفدت طبعات هذا القاموس، وقمنا بطباعته مرة أخرى، ولم تتوقف عمليات تطوير القاموس حتى الآن، فهناك فريق بحثي يقوم بالعمل على تطوير القاموس وزيادة مدخلاته بناء على بيانات لغوية ضخمة، يمكنها أن تقدم للطالب الصيني استخدامات متعددة للمفردات العربية في أكثر من مجال، كما أننا ندرس إطلاق أول قاموس عربي صيني إلكتروني مجاني، يخدم تعلم اللغة العربية في الصين. وقد دعم كرسي السلطان أيضًا أو قاموس صيني عربي في الصين، وهو القاموس الذي قام بإعداده كوكبة من خبراء أقسام اللغة العربية من كل أقسام اللغة العربية في الصين، وقامت بنشر النسخة المنقحة منه دار النشر التجارية وهي واحدة من أهم وأشهر وأقدم دور النشر الصينية، والتي دعم كرسي السلطان أعمال تطوير القاموس ونشره في عام 2013، ولا يزال العمل على تطويره يسير على قدم وساق.
وهنا، أودُ أن أشارك الحضور الكرام، مجهودات قسم اللغة العربية بجامعة بكين في دفع التبادل الحضاري الصيني العربي، فقد قمنا أنا والخبير السوري في قسمنا الأستاذ الدكتورحمود يونس، بتأليف أول محتوى تعليمي للخط العربي في الصين، بعنوان (محاضرات مُبسَّطة في الخط العربي)، والكتاب صدر عن دار نشر جامعة بكين عام 2022، ويضم الكتاب تعريفًا بالخطوط العربية المختلفة مثل النسخ والرقعة والثلث والديواني والفارسي، وغيرها من الخطوط العربية التي يتعلمها طلاب أقسام اللغة العربية في الصين. كما يحتوي الكتاب أيضًا على الخط الصيعربي، والخط الصيعربي، هو مزيج فريد يجمع بين الخط العربي وأساليب وتقنيات الخط الصيني في آن واحد. فهو خط عربي، يكتب بفرشاة الكتابة الصينية، وفرشاة الكتابة لمن لا يعرفها، يستخدمها الصينيون لكتابة الرموز الصينية، واستخدمها المسلمون الصينيون في كتابة اللغة العربية، ويحمل هذا الخط سمات فنية مميزة وواضحة، مختلفة عن طرق كتابة الخط العربي في الدول العربية وإيران وتركيا. وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يضم محتوى تعليمي جامعي الخط الصيعربي ضمن الدراسة الجامعية، وقد كان لقسمنا وجامعتنا هذا السبق. وقد نفدت طبعات النسخة الأولى، وقمنا بطباعة نسخة ثانية منه. والكتاب به جزء نظري يشرح التشابه والاختلاف بين كل خط عربي، وجزء تطبيقي يتدرب فيه الطلاب على كتابة كل نوع من أنواع الخطوط العربية، ولم نكتفي بذلك، بل قمنا أيضًا بتنظيم مسابقة وطنية للخط العربي لأقسام اللغة العربية في الصين، لمدة خمس سنوات متوالية، والتي يشارك فيها كل عام ما لا يقل عن 200 طالب جامعي من كل أنحاء الصين.
ومن المحتويات العلمية التي دعمها كرسي السلطان والتي ستنشر قريبا، هو كتاب النحو العربي المبسط لطلاب أقسام اللغة العربية، وهو كتاب قمت بتأليفه أنا ومجموعة من الخبراء العرب، كانت من أهم أهدافه تبسيط القواعد الصرفية والنحوية والعربية وتزويدها بالأمثلة الحية من المدونات العربية (corpus) المختلفة، وهي أول مرة في تاريخ تأليف المحتويات التعليمية للغة العربية في الصين، أن نستعين بنتائج المدونات اللغوية العربية في صناعة محتوى الكتاب وتزويده بالأمثلة اللازمة، بعد أن كانت الكتب التعليمية للغة العربية في الصين، تستعين بالخبرة التعليمية فقط، لكن في محتوانا التعليمي هذا، فقد مزجنا بين الخبرة التعليمية والإحصائيات اللغوية، وقد قمنا بتجربة هذا المحتوى على طلاب قسمنا قسم اللغة العربية في جامعة بكين لأكثر من سنة، وكانت النتائج مبشرة للغاية.
رابعًا، الأنشطة الطلابية
حرص كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية في جامعة بكين على دعم الأنشطة الطلابية على مدار الأعوام السابقة، لأن طلابنا وباحثينا في الصين وعُمان هما عماد التعاون العلمي والثقافي بين البلدين، فبعد تدشين كرسي السلطان قابوس بفترة قصيرة، وتحديدًا في في يونيو 2008، استقبل كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية في جامعة بكين أكثر من 40 طالبًا وطالبة من جامعة السلطان قابوس لزيارة جامعة بكين، ودعونا الدكتور لي تشينغ يان من كلية الإدارة الحكومية في جامعة بكين لإلقاء محاضرة حول الأوضاع في الصين في ذلك الوقت. لتفتح أبواب جامعة بكين بعد ذلك مصراعيها أمام وفود الطلاب والباحثين من عُمان ودول الخليج العربي، لزيارة جامعة بكين والدراسة بها، وبعد ذلك توالت الأنشطة الطلابية بين الجانبين الصيني والعُماني، لتتوج بواحدة من أهم الأنشطة، وهو برنامج تبادل السفراء الشباب الصينيين والعرب، وهو النشاط الذي بدأ في 21 يوليو 2016، واستضافته جامعة بكين، وعقدت الدورة الثانية منه في يوليو 2023 في جامعة بكين أيضًا، وحضره طلاب وباحثين من عُمان وسائر الدول العربية، كما حضره طلاب من جامعة بكين والجامعات الصينية الأخرى من كافة التخصصات.
هذا النشاط يعد حلقة وصل قوية ومنصة تواصل هامة للطلاب والباحثين العرب والصينين، فمن خلال فاعلياته وأنشطته، يتبادل الطلاب والباحثين من الجانبين الآراء والخبرات الحياتية والأكاديمية والثقافية، وتذوب الفوراق الثقافية بين الجانبين، وتكون الحاجة إلى المعرفة هي المسيطرة على الأجواء الاحتفالية لهذا البرنامج، فيسعى الجميع لاستكشاف كل ما هو مجهول بالنسبة له، والتأكد والتحقق من ما قرأه أو درسه قبل ذلك عن الصين والدول العربية، ويقترب فيه الشباب من بعضهما البعض، من خلال الأنشطة الترفيهية المصاحبة للمؤتمر الرئيسي، والتي يزور فيه الطلاب والباحثين العرب والصينين مزارات سياحية صينية شهيرة، ويتعرفوا فيها على الصين الجميلة، صين الحضارة والعراقة، ويروا الصين المعاصرة، وما حققته الصين من تقدم وتطور خلال القرن الحالي.
ومن الأنشطة التي أود أن يتعرف عليها قارئنا العربي، والتي يعتبر درة الأنشطة الطلابية لكرسي السلطان قابوس للدراسات العربية، هو (بعثة جامعة بكين العابرة للغات والثقافات) (CAMEL)، قامت هذه البعثة في الفترة من عام 2019 وحتى عام 2024 بالعديد من الزيارات الميدانية لعُمان والسعودية والإمارات وقطر ومصر، بمشاركة طلاب من جامعة بكين وتحت إشراف أساتذة متخصصين في جامعتنا، وتهدف هذه الزيارات الميدانية إلى أن يتعرف الطلاب الصينيين على ثقافة المجتمعات العربية المعاصرة، وفهم التطور الذي يحدث فيها، وفي كل زيارة ميدانية نتواصل مع العديد من الجهات المعنية والتي من بينها الجامعات والهيئات البحثية العُمانية والسعودية والمصرية، التي رحبت بنا واستقبلتنا خير استقبال، وتبادلنا خلال هذه الزيارات الآراء العلمية والأكاديمية حول العديد من الموضوعات العلمية المهمة.
كما قام كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية في جامعة بكين بتنظيم بعثات دراسية للطلاب والطالبات من قسم اللغة العربية بكلية اللغات الأجنبية في جامعة بكين لزيارة جامعة السلطان قابوس ومعهد السلطان قابوس لتعليم العربية للناطقين وغيرها من الجامعات والهيئات البحثية العُمانية، التي استقبلت طلابنا بحفاوة بالغة، وكانت برامجهم التعليمية خير معين لطلابنا على دراسة اللغة العربية وثقافتها. كما دعم كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية أربع دورات من مسابقة الخط العربي، وخمس دورات من مسابقة المقال العربي، وغيرها من المسابقات الوطنية لمساعدة الطلاب على تعلّم اللغة العربية وفهم ثقافاتها بشكل أفضل.
في الختام.. أود التأكيد على أن العلاقات بين الصين وعُمان في مجالي التعليم والثقافة تقوم على أساس متين من الفهم المتبادل والاحترام، وأن الجهود المشتركة لتعزيز هذه العلاقات يمكن أن تؤدي إلى تحقيق مزيد من الإنجازات في المستقبل. وإننا سنواصل جهودنا لدفع التواصل الحضاري بين الصين والدول العربية بكل الطرق التعليمية والبحثية الممكنة لمواصلة بناء جسور جديدة للتواصل والتفاهم، والعمل معًا لتحقيق مستقبل مشرق ومزدهر لشعبي بلدينا.
** نائب مدير كلية اللغات الأجنبية وأستاذ كرسي السلطان قابوس بجامعة بكين